العونة.. سلاح مصر والعرب
كان سقوط بغداد هو بداية الحرب العالمية الثالثة، حيث لم يعد بعيدا هذا الاعتراف الأمريكي حول الفوضى الخلاقة التي قال عنها أحد قادتهم «ليعرفوا أننا في مائة عام طرقنا أبوابهم ثلاث مرات».. تلك الحقيقة التي باتت جزءا من اليقين الذي تعيشه المنطقة العربية.
مصر تجرجر الآن إلى «أتون الحرب» وتفخيخها أو تفكيكها هو نهاية الترسيم الجديد لحدود لن تهدأ بعدها ولو بعد قرن كامل من الزمان.. الآن يطرقون أبواب دمشق بعد أن نشروا الفوضى باليمن وقضوا على العراق وحلحلوا تونس، وهاهم يقتربون أكثر من الرياض، وسقوط الرياض لن يكون مستحيلا إذا لم ندرك حجم المأساة التي نعيشها في وطننا العربي.
وبعيدا عن التحليلات السياسية العقيمة والرؤى العسكرية القاصرة، تصبح التعبئة العامة في العصر الحديث أمرا مغايرا لواقع عشناه في الماضي.. أدوات اليوم في الاختراق تحمل من المضامين القومية ما يجعل العدو القادم عابرا فوق مصطلحات براقة.. الحرية.. الديمقراطية.. حقوق الإنسان.. تداول المعلومات.. وكلها نتناولها دون إعمال للتفكير.
بدايةً، لابد أن تصمد دمشق وأن ينتصر الأسد ويعبر ببلاده إلى منطقة أكثر استقرارا، فسقوط دمشق نقص من قوتنا وصمودنا وعزيمتنا.. وتفهم الخليج العربي لما يدور حول البوابة العربية الثانية لابد أن يفهم على أنه حالة مصير لن تنجو منه عاصمة عربية واحدة إذا ما سقطت.
العمليات الأخيرة في كرم القواديس وشواطئ دمياط، تؤكد أننا أمام حرب حقيقية، تقودها أجهزة استخباراتية أجنبية وتمدها قوى الشر بأحدث الأسلحة لإسقاط مصر.. فلم نعد نحارب جماعات متطرفة ضلت الطريق بل أصبحنا أمام خطر حقيقي وحرب شاملة ضد وحدات عسكرية منظمة تم تدريبها على الأعمال القتالية والإرهابية بشكل يفرض علينا تغيير سلوكنا الحربي والانتقال من مرحلة خوض حرب عصابات إلى قتال ممتد ضد عدو مدعوم بأجهزة معلومات فائقة الاحترافية.
وللحرب أدواتها ليس على جبهة القتال فقط، وإنما تمتد هذه الأدوات إلى الجبهة الداخلية لتطهيرها من العملاء والخونة وأصحاب الأجندات الخادمة لأهداف العدو، وتشكيل جبهة واسعة لمواجهة الخطر أهم أهدافها: إعادة اللحمة لمجتمع أهم ما يتهدده هو شق الصف ومن ثم «النفاذ» إلى عظامه ونهش لحمه ومص دمائه وإدخاله في دوامة الفوضى العارمة.
وإعادة التماسك للجبهة الداخلية لن يتأتى إلا بكشف الحقائق أمام المجتمع، ووضع المسئوليات الجسام على عاتق أصحابها، والشعب هو صاحب القرار وأهم أدوات الانتصار، وذلك لن يتحقق إلا بعمل مستمد من تاريخ الخطر الذي عاشته البلاد على مر العصور وعلى رأسها ما كان يسمى قديما «العونة».
العونة هي سلاح مصر وأداة الجيش الحقيقية في الانتصار على قوى الغرب التي تخطط بليل.. والعونة هي حالة الطوارئ التي كانت تعيشها مصر وقت الفيضان، حيث يكلف فيها كل إنسان قادر بدءا من سن الخامسة عشر وحتى الخمسين بحراسة وإعادة بناء الجسور التي يلتهمها الفيضان، وهي الحالة التي ثبت تاريخيا قدرة المصريين فيها على تحدي الطبيعة في أيام معدودات.
والعونة من العون ومد يد المساعدة، والعونة التي نقصدها في العصر الحديث أن تكلف بها الشعوب العربية لمواجهة فيضان الكراهية والحقد والغل والمؤامرات والسلاح الذي يغرق المنطقة العربية قادما من كل حدب وصوب.. والعونة قديما كان يصدر بها أمر عال أي من أعلى سلطة في البلاد.
وكان قرار العونة يصدر مشمولا بشرح الظرف الذي تعيشه البلاد، فإذا وصل ارتفاع المياه في النيل إلى أربعة وعشرين ذراعا يجوز للمديرين والمحافظين أن يطلبوا المساعدة من كل إنسان قادر على العمل بنفسه؛ بأن يشترك في الأعمال اللازمة للتحفظ من الفيضان في الجهة التي يخشى حدوث خطر بها، بحيث يكون طلب الأنفار من الجهات الأقرب للمكان الذي يخشى منه.
وقد كانت العونة واجبة على جميع أهالي القطر، الذكور سليمي البنية البالغ سنهم من خمسة عشر عاما وحتى الخمسين، ما عدا الأشخاص الذين تشملهم دواعٍ من المعافاة، وعادة ما كان القرار يعفي العلماء والفقهاء والأشخاص المختصين بالتعليم وطلبة العلم بالمساجد والمدارس والجمعيات الخيرية كالتكايا والأديرة والمستشفيات وخدمة المساجد والأضرحة والمقابر والقساوسة والرهبان والحاخامات وخدمة الكنائس والمعابد والجبانات من سائر الأديان.
ويُعفَى من العونة المصابون بأمراض مزمنة وخفراء الكفور وأهالي المدن الذين لا يملكون أرضا ولا يشتغلون بالزراعة وأرباب الصنائع والحرف وصيادو السمك والمراكبية.. وكان من حق المحافظين والمديرين في حالة عدم وصول ارتفاع النيل إلى الحد الخطر إذا ما رأوا أن النيل يُخشى منه في إحدى الجهات أو المديريات، يجوز لهم البدء في طلب العونة فورا دون انتظار الحصول على تصديق من نظارة الأشغال العمومية خلال أربع وعشرين ساعة.
وفي حال الامتناع عن المشاركة في العونة كانت الغرامة المقررة مائة قرش أو الحبس من عشرين يوما إلى ثلاثة أشهر، ويعاقب بنفس الجزاء كل من يمنع أحدا من الناس المطلوبين للمساعدة، ولم يكن هذا الحكم يصدر من المحكمة بل من محكمة خاصة يرأسها باشمهندس المديرية، ويحق لمن وقعت عليه العقوبة استئناف الحكم أمام قومسيون يؤلف بمعرفة ناظر الداخلية.
والكلام عن العونة قديما أعمق من مجرد قراءته على نحو من «التفكه» أو «التندر»، فقد كان سبيل مصر لمواجهة خطر الطبيعة، وعندما صدر قرار بإلغاء السخرة في البلاد تم استثناء العونة، وظلت قائمة لمواجهة محنة الفيضان الذي كان ينسف قرى بأكملها.
ونظن أن العونة الآن يمكن تحديثها حيث تسند للجماهير الأعمال التي من شأنها دعم القوات المسلحة وأجهزة الأمن، ليتحول الشعب كله إلى قوات مسلحة، فهناك أعمال نتصور أن القيام بها على نحو شامل من شأنه أن يواجه خطر الإرهاب الذي بدأ يأخذ منحى الحرب الشاملة، ومنها فكرة تحول المواطن إلى كيان إيجابي قادر على إخطار أجهزته بما يراه من خطر اندساس الإرهابيين وسط الأهالي، سواء كان ذلك في مناطق الخطر في سيناء أو مناطق الدعم اللوجيستي للإرهابيين من قبل أنصار جماعة الإخوان الإرهابية.
والعونة الحديثة قد تتمكن من حماية منشآتنا العامة وما أكثرها، ويمكن لكل منطقة أن تحمي مدارسها ومحطات المترو والقطارات وسككها والطرق والكباري، كما فعل الشعب المصري في أكبر عملية عونة قام بها عقب الانهيار الأمني بعد ٢٥ يناير.
والواقع يفرض علينا تكاتف الجهود، فليس من المنطقي أن نتصور أن الشرطة وحدها أو القوات المسلحة منفردة تقوم بحماية كل منشآت مصر من خطر الحرب العالمية الثالثة، ولم يعد مقبولا أن نشارك في المعركة بترديد الأغنيات الوطنية، وأبناؤنا يقتلون يوميا على جبهة الحرب الكبيرة والمتسعة في كل شوارع مصر وحواريها.
مراكز الشباب والأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والنقابات ووسائل الإعلام، يمكنها أن تشارك في العونة الجديدة.. علماء المساجد والكنائس والمدرسون والطلاب والجامعات يمكنهم أن يشاركوا بالعونة.. عونة بالكلمة وعونة بمناقشة الأفكار الهدامة وعونة بحماية منشآتهم، فكل مسجد وكل كنيسة وكل مدرسة وكل جامعة وكل مركز شباب وكل حزب سياسي.. لكل هؤلاء أصحاب وملاك، والملاك هم نحن ونحن أصحاب العونة.
وإذا ما تصورنا نجاحنا في تحفيز المواطنين على القيام بالعونة؛ مشاركةً منهم وبشكل منظم وبأدوار متعاونة ومتشاركة، فإن الشعب المصري سيقهر أعداءه مهما كانت قوتهم، وتعميم العونة من الإطار المحلي إلى الإطار العربي من شأنه أن يبني جبهة داخلية عربية لن يقوى على مواجهتها أي عدو مهما بلغت قوته.