رئيس التحرير
عصام كامل

الخليفة الذي احتفظ بجثة جاريته


لأن عمر بن عبد العزيز كان حاكما تقيا ورعا.. عبقريا في أدائه، ذكيا في تعاطيه مع مشكلات مجتمعه.. صاحب جهاز إعلامي اعتمد الصدق والأمانة طريقا ومنهاجا واستعمل وزراء على نفس المستوى دون أن يكون من بينهم رجال أعمال يخلطون بين الخاص والعام، وناصريون يرون أن هزيمة يونيو أعظم من انتصار أكتوبر، أو فلول يعيدون إلى الأمة عشق الماضي دون التطلع إلى المستقبل.. لأن كل هذا كان عصره، فقد أصبح الأمر صعبا على من بعده.


جاء يزيد بن عبد الملك بن مروان وعمره كان في التاسعة والعشرين، خلفا لعمر بن عبد العزيز، فلم يجد بدًا من القول إنه سيسير على درب عمر، وذلك في إطار الاستخدام الدعائي الجيد لعدل عمر، فقال في محيطيه «اذهبوا إلى ما كان عمر يذهب إليه وامضوا في طريقه»، وقال قولته الشهيرة: «سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز»، وأتى بأربعين شيخا - كانوا في ذلك الوقت علماء الأمة - شهدوا له أن الخلفاء ما عليهم حساب ولا عذاب!!

تصوروا.. مضى الرجل في طريق عمر بن عبد العزيز أربعين ليلة فقط، استطاع بعدها أن يجمع علماء الأمة من هواة «الفتة» طبعا و"غير الفتة"، ومن أصحاب المطامع والمطامح ليشهدوا له بما لم يشهد به الله لأنبيائه أجمعين.. 

يبدو أنه أطعمهم مما يطير في السماء أو يسبح في الماء، وملأ جيوبهم وأجزل العطايا لهم فحصل بـ "قدرة قادر" على صك غفران مسبق يجيز له أن يفعل ما يريد فليس عليه حساب ولا يمكن لملك أن يجرؤ على سؤال فخامته عند الموت.

بالطبع، وجد يزيد نفسه ملاكا لن يسأل، فتغيرت سيرته بعد الأربعين الأولى.. كان عاشقا للجنس.. أغرق نفسه في دنيا الجواري والغلمان، وأصبح واحدا ممن يضرب بهم المثل في المجون، ورغم قصر مدة حكمه من ١٠١هـ إلى ١٠٤هـ، إلا أن الحكايات التي رويت عن عصره تكشف كيف كان ماجنا شرها للجنس محبا له.. ترك أمور المسلمين وتفرغ لنفسه ولذاتها.

لم تتوقف حكاياته عند المرسوم الذي أصدرته جماعة العلماء، المُلزِم لملائكة السماء بأن يزيد غير مسموح بسؤاله عما فعل في أهل الأرض، حيث إنه حاصل على حصانة تحول دون ذلك.

وامتدت حكاياته إلى جاريته «سلامة القس»، وقد كانت مطربة لا تقل في سمعتها عن أم كلثوم مثلا.. جميلة المنظر حسنة الصوت.. باختصار كانت أنثى طاغية الأنوثة، لها حكايات مثيرة قبل أن تلتحق بقصر الملك.

لم يطق يزيد صبرا على جمال سلامة القس، فعشقها وقضى معها الليالي الملاح، وقد قيل في يزيد إنه كان يأتي جواري أبيه.. المهم أن مجون يزيد دفعه دفعا للبحث عن غيرها أو معها، فكانت تلميذتها «حبابة» وهي التي فتنته الفتنة الكبرى.. يقال إن سلامة كانت صوتا قويا مؤثرا.. مطربة لا تقل حلاوة صوتها عن حلاوة صوت نجاة الصغيرة مثلا في الدفء والحنان، غير أن حبابة كانت أقل منها كفاءة في الغناء.

المثير في حبابة وهي بالمناسبة كانت تلميذة لسلامة، أنها كانت فاتنة الوجه، رويت عنها قصص في الإثارة والفتنة والجمال، فتمكنت من قلب الخليفة، فلم يستطع مقاومتها.. بنى لها قصرا فخما بدمشق بأموال المسلمين وبالطبع لم يكن هناك جهاز مركزي للمحاسبات ولا رقابة إدارية، فقد كان الرجل صاحب حصانة في الدنيا والآخرة.. زين لها القصر وخصص هذا المكان للهو والسرور والاستراحة بعد رحلات الصيد التي كان يقوم بها في صحراء الأردن.

عاد يزيد من رحلة صيد ليست طويلة، فلم يكن يطيق فراق حبابة.. عاد من صيده.. جهزوا له كل ملذات الدنيا من طعام وشراب.. جلس يسامر حبابة ويبدو أن أوضاعهما لم تكن تحت السيطرة عندما ألقى إليها بحبة عنب، فأخطأت الطريق و«شرقت»، إذ يبدو أن الحبة دخلت إلى الجهاز التنفسي.. دقائق معدودة وكانت حبابة في عداد الموتى.. جن جنون الخليفة، إذ يبدو أنها كانت صاحبة تأثير مذهل عليه!!

رفض يزيد دفن حبابة وأبقاها ثلاثة أيام في مضجعه.. يشمها ويقبلها.. ويضاجعها كأنها حية.. ظل الخليفة يبكي بجوار جثمانها حتى عاب عليه أهله وطالبوه بدفنها.. وافق أخيرا وظل على حاله يبكي ويقال إنه عاش بعدها خمسة عشر يوما، وفي روايات سبعة عشر يوما أو أربعين يوما، وهناك روايات لا تنكر مجونه، ولكنها تنكر واقعة مضاجعته لجثة حبابة!!

تلك هي صورة أخرى من صور الخلافة التي لا علاقة لها بدين، وإنما استخدم فيها الدين كصك غفران يفعل بعده الحاكم ما يريد، والصور كثيرة نطالع بعضها في أيام قادمة إن شاء الله.
الجريدة الرسمية