رئيس التحرير
عصام كامل

قلب خالٍ


واهمٌ من يعتقد أن الصغار لا يفهمون، تحكي صديقتي وكأنها تنظر على مسرح الماضي وأبطاله من بعيد، هي في الخمسين من عمرها وما زالت تذكر ما مضى من طفولتها، تقول: أمي أروع الأمهات، حنونة مبدعة، علمتنا العطاء وحب الناس، هي صاحبة فضل على الجميع، سافرت أمي مضطرة للخارج مدة أسبوعين، كنا أنا وأختي فتاتين في عمر الزهور عندما سافرت، وكانت أول مرة تتركنا، طمأنتنا وقالت: خالتكم فلانة هتقعد معاكم هي وبناتها وهيهتموا بكم، والبيت فيه كل احتياجاتكم.


وعندما وصلت قريبة أمي وبناتها فرحنا بهن كثيرا، كنا في حيرة كيف نعد لهن الطعام فنحن صغار ولا نعرف الطهي، لكنهن قالوا إن خالي يعد وليمة غداء معتبرة ترحيبا بهن، وخالي هذا كان جارا لنا الباب في الباب، لكنه كان على خلاف مع أمي وقاطعها منذ فترة بالرغم من إحسانها له، لذلك منعنا حياؤنا وعزة نفسنا أن نسألهن إذا كان خالي سيدعوننا للطعام معهن أم لا؟

وكان أن دار حوار بيني وبين أختي، تقول إحدانا: أكيد خالي هيعزمنا معاهم، فترد الأخرى: أكيد مش هيسيبنا، تسأل إحدانا مستنكرة: يمكن يدعوهم ويتركنا؟ وهنا دق جرس الباب فإذا بالطارق خالي: ياه من زمان مشفتش ملامحه من قريب، دخل لنصف قاعة البيت ففرحتُ فرح البلهاء وكأن دخوله يعني أنه قطع القطيعة، وقفتُ أترقب، ووقف متجاهلا وجودنا! ثم وَجَهَ الكلام لقريبتنا وقال: تفضلي يا حاجة فالغداء جاهز، ثم دعا بناتها بالاسم خشية أن نفهم خطأ أننا مدعوتان، لم ينظر لإحدانا وكأننا عدم!

توقعت من ضيفتنا أن تلومه أو على الأقل ترفض الذهاب دوننا، ولكنهن ذهبن جميعا ولم يتلفت أو يلتفت أحدهم إلينا! خرجوا وتركانا مكسورتي الخاطر، ذهبوا ليأكلوا ما لذ وطاب وهم يعلمون أننا جائعتان وأنه لا طعام مطهي عندنا.

لكن لماذا تعجبت؟ لم تكن هذه المرة الأولى التي أراه فيها جامد المشاعر خالي القلب، فالمواقف كثيرة، لكنني كنت دائما أبحث له عن مبرر خشية أن أكرهه أو يسقط من نظري.

تسترسل صديقتي وقد تغيرت ملامحها: نظرت لأختي وقد تمزق قلبي لكسرة نفسها، قلت: ولا يهمك تعالي ناكل عيش وجبنة، وأخذنا نأكل حتى شبعنا، مر الوقت بطيئا حتى عدن سعداء، حالهن حال العائد من نزهة أو جلسة سمر، ومن البجاحة أن سألانا ماذا أكلتما؟ قلنا: جبنة، ومن الوقاحة أن طلبن منا أن نضع بعضًا منها لأنهن جائعات، صدقتم (حقيقي جائعات)! مرت أيام عرفنا فيها كيف يشعر الأيتام حتى عادت لنا أغلى الناس صاحبة القلب الكبير، عادت لنا أمي ليتها أبدًا لا تغيب.
الجريدة الرسمية