رئيس التحرير
عصام كامل

«ملة إبراهيم» دستور التكفيريين.. يُشبه «معالم في الطريق» الذي سبق به الإخوانى «سيد قطب» في درجة تأثيره وصياغته لأيديولوجيا «الجهادية السلفية»

أبو محمد المقدسي
أبو محمد المقدسي

يعد كتاب "ملة إبراهيم"،الذي وضعه "أبو محمد المقدسى"،أبرز منظرى تيار "السلفية الجهادية"،التي تجد رواجا متدفقا في مصر، مرجعيتهم الأهم،إن لم تكن الوحيدة،في نظرتهم للمجتمع المصرى،والذي يرونه-بحسب معايير الكتاب-كافرا،رئيسا وحكومة وشعبا، و"المقدسى"،ينضم إلى كل من:الإخوانى "سيد قطب"،و"محمد عبد السلام فرج"،باعتبارهم "أبرز منظرى تيار العنف الدينى"، و"أبو محمد المقدسي"، أو "عصام برقاوي" وهذا هو اسمه الحقيقي، أردنيٌ من أصل فلسطيني، أقام في الكويت فترة، وانخرط في تيار "أهل الحديث الثوريين"، ورثة تيار جماعة "جهيمان العتيبي"، التي احتلت الحرم المكي عام 1979.

كتاب "ملة إبراهيم"،الذي يشبه كتاب "معالم في الطريق"،الذي سبقه به الإخوانى "سيد قطب"، في درجة تأثيره وصياغته لآيديولوجيا "الجهادية السلفية"،يقوم على فكرة بسيطة مفادها الأخذ بملة النبي إبراهيم، الذي أمرنا الله بالاقتداء به، كما في نص الآية الكريمة: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده".

هذا التأسي يتمثل بالكفر بالطاغوت والبراءة منه، هذا الكفر يتجلى في صور كثيرة، أهمها: من لم يحكم بما انزل الله، كما قالت الآية القرآنية: "ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون"، وبما أن جميع الحكومات العربية لا تحكم بما انزل الله، بحسب المقدسي، فهي إذن طاغوت من الطواغيت التي أمرنا بالكفر بها والبراءة منها، أسوة بإبراهيم النبي، ومن هنا جاء اسم الكتاب.
المثير أن المقدسي لا يكتفي بمجرد الإعلان اللفظي للكفر بالطاغوت، بل يتدخل في تحديد أشكال هذا الكفر، إذ لا يجوز أن ينخرط المسلم في وظائف الطاغوت وخصوصا في السلك العسكري، حتى أنه أفتى بكفر القوات المسلحة العربية.
وتبقى دائما وأبدا،العبارة الأشهر على ألسنة هؤلاء التكفيريين هي:"بُراء.. ُبراء من حكوماتكم ومحاكمكم.. بُراء من قوانينكم ومناهجكم ودساتيركم.. إلى أوليائهم وجيوشهم وشرطتهم وأجهزة مخابراتهم وحرسهم.. بُراء"،وهى مقتبسة من مقدمة الكتاب،والتي يختتمها المقدسى بقوله:"كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده..".
وفى قراءة سريعة للكتاب، يستهل "المقدسى" مقدمته،بما يشبه طلقات الرصاص،حيث يقول: "إلى الطواغيت في كل زمان ومكان، إلى الطواغيت حكامًا وأمراء وقياصرة وأكاسرة وفراعنة وملوكًا،إلى سدنتهم وعلمائهم المضلين،إلى أوليائهم وجيوشهم وشرطتهم وأجهزة مخابراتهم وحرسهم، إلى هؤلاء جميعًا، نقول:إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله، براء من قوانينكم ومناهجكم ودساتيركم ومبادئكم النتنة، براء من حكوماتكم ومحاكمكم وشعاراتكم وإعلامكم العفنة،كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده"، ولا يُخفى "المقدسى" سعادته،بعدما شاع عن كتابه من أنه مرجعية التنظيمات المسلحة،فيقول:"فالحمد لله الذي جعله شوكة في حلوقهم وغصة في صدورهم".

"المقدسى"،يقطع بأن جميع الحكام العرب طواغيت،ويجب مقاومتهم،وخذلانهم،لأنهم " لا يظهرون الرضا عن الإسلام أو يهادنونه ويقيمون له المؤتمرات وينشرونه في الكتب والمجلات ويؤسسون له المعاهد والجامعات إلا إذا كان دينًا أعور أعرج مقصوص الجناحين بعيدًا عن واقعهم وعن موالاة المؤمنين والبراءة من أعداء الدين وإظهار العداوة لهم ولمعبوداتهم ومناهجهم الباطلة."

وفى هذا السياق،يضرب "المقدسى"،المثل،بالمملكة العربية السعودية،فيحمل على حكامها كثيرا،إذ يقول:"وإننا لنشاهد هذا واضحًا في الدولة المسماة "السعودية"، فإنها تغر الناس بتشجيعها للتوحيد وكتب التوحيد، وحثها للعلماء على محاربة القبور والصوفية وشرك التمائم والتوله والأشجار والأحجار.. وغير ذلك مما لا تخشاه ولا يضرها أو يؤثر في سياساتها الخارجية والداخلية.. وما دام هذا التوحيد المجزأ الناقص بعيدًا عن السلاطين وعروشهم الكافرة فإنه يتلقى منهم الدعم والمساندة والتشجيع".

وفى موضع ثان،يسفه الكتاب رأى من يعتقدون أن الإسلام،هو النطق بالشهادتين،وإقامة الصلاة،وإيتاء الزكاة،والصوم،والحج،فحسب،إذ يوضح أنه: "إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد ولا في ضجيجهم بـ"لبيك"،
ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة"،ويقصد بهم حكام المسلمين".

ويُفصّل الكتاب أن من أخص خصائص "ملة إبراهيم ": "إظهار البراءة من المشركين ومعبوداتهم الباطلة،وإعلان الكفر بهم وبآلهتهم ومناهجهم وقوانينهم وشرائعهم الشركية،وإبداء العداوة والبغضاء لهم ولأوضاعهم ولأحوالهم الكُفرية حتى يرجعوا إلى الله، ويتركوا ذلك كله ويبرأوا منه ويكفروا به"،ثم يدلل على رأيه بالآية القرآنية:" قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده". "

ويعتبر الكتاب أن كل من لا تنطبق عليه صفات "ملة إبراهيم" –من وجهة نظرهم-من الكافرين،ولا يجوز مخالطتهم،"فهذه هي "ملة إبراهيم" التي قال الله فيها: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"، فعلى المسلم أن يعادي أعداء الله ويظهر عداوتهم ويتباعد عنهم كل التباعد وألا يواليهم ولا يعاشرهم ولا يخالطهم...".

وإذا قال قائل: إن "ملة إبراهيم " مرحلة أخيرة من مراحل الدعوة، يسبقها البلاغ بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يلجأ الداعية إلى "ملة إبراهيم"، من البراءة من أعداء الله ومعبوداتهم والكفر بها وإظهار العداوة والبغضاء لهم إلا بعد استنفاد جميع أساليب اللين والحكمة؟ فإن رأى "المقدسى" يأتى عنيفا كعادته،فيقول:" إن هذا الإشكال إنما حصل بسبب عدم وضوح "ملة إبراهيم" لدى هؤلاء الناس..فـ"ملة إبراهيم" من حيث إنها إخلاص للعبادة لله وحده وكفر بكل معبود سواه لا يصح أن تؤخر أو تؤجل.. بل ينبغي ألا يُبدأ إلا بها، لأن ذلك هو تمامًا ما تحويه كلمة "لا إله إلا الله" من النفي والإثبات، وهو أصل الدين، وقطب الرحى في دعوة الأنبياء والمرسلين، ولأجل أن يزول عنك، كل إشكال فهاهنا قضيتان: الأولى: وهي البراءة من الطواغيت والآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل والكفر بها، فهذه لا تؤخر ولا تؤجل.. بل ينبغي أن تظهر وتعلن منذ أول الطريق،والثانية: البراءة من الأقوام المشركين هم أنفسهم إن أصروا على باطلهم.

ويشرح المقدسى القضيتين،ففى الأولى،يقول: "وهي الكفر بالطواغيت التي تُعبد من دون الله عز وجل، سواء أكانت هذه الطواغيت أصنامًا من حجر، أو شمسًا أو قمرًا، أو قبرًا أو شجرًا، أو تشريعات وقوانين من وضع البشر.. فملة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين تستلزم إظهار الكفر بهذه المعبودات كلها وإبداء العداوة والبغضاء لها، وتسفيه قدرها والحط من قيمتها وشأنها وإظهار زيفها ونقائصها وعيوبها منذ أول الطريق".

أما القضية الثانية:، وهي البراءة من المشركين والكفر بهم وإظهار العداوة والبغضاء لهم هم أنفسهم،فيفصل الكتاب ذلك بقوله: "وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله".

ويرى الكتاب أن "المرء قد ينجو من الشرك ويحب التوحيد، ولكنه يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متبعًا لهواه،داخلًا من الشرك في شُعب تهدم دينه وما بناه، تاركًا من التوحيد أصولًا وشُعبًا لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه،فلا يحب ولا يبغض لله ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسوّاه، وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله"، "وأفضل القرب إلى الله، مقتُ أعدائه المشركين وبغضهم وعداوتهم وجهادهم ".

ويرفض "المقدسى"مخاوف البعض على الدعوة الإسلامية من "السلفية الجهادية"،قائلا:"هذا جهل وإرجاف، لأن هذه الدعوة هي دين الله، الذي وعد بأن يُظهره على الدين كله ولو كره المشركون،" وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".

ويسخر في موضع ثان من علماء السلطان: "نعم والله، لقد رأيناهم يغدو أحدهم ويروح.. يبيع دينه بأقل من جناح بعوضة.. يُمسي مؤمنًا يدرس التوحيد وربما درّسه ويصبح يقسم على احترام الدستور بقوانينه الكفرية، ويشهد بنزاهة القانون الوضعي..رغم حفظهم آيات مثل: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"،" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم".
ويغازل "المقدسى" أتباعه ومريديه بقوله:"فلا يظن ظانٌّ، أن هذه الطريق مفروشة بالورد والرياحين، بل محفوفة بالمكاره والابتلاءات، ولكن ختامها مسك وروح وريحان ورب غير غضبان..وأتباع ملة إبراهيم من أشد الناس بلاء لأنهم يتبعون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله".

ويُحرض "المقدسى"على الخروج على الحكام بقوله:" ففي تاريخ الدعوة إلى الله، لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة، فاختاروا الله وحده.. وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة حسنة في رسل الله... وإنه لينبغي لهم أن تمتلىء قلوبهم بالثقة حتى تفيض.. وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده في وجه الطاغوت أيًا كان.. ولن يضرهم الطاغوت إلا أذى.. ابتلاء من الله لا عجزًا منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركًا لهم ليسلمهم إلى أعدائه، ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف.. ثم تعود الكرّة للمؤمنين.. ويحق وعد الله لهم بالنصر والتمكين".

وفى نهاية الكتاب،يحذر "المقدسى"،مما وصفه بألاعيب وحيل الطغاة لاستمالة الدعاة،إلى صفوفهم، بعيدا عن "ملة إبراهيم"،بقوله:"ولا يزالون يخطّطون لأجل حرف الدعاة عن هذا الصراط المستقيم، إلى سبل فيها سكوت عن كثير من باطلهم، تُرضي خواطرهم... حتى تموت الدعوة وتتميع قضيتها وينحرف دعاتها عن خطها الواضح البيّن المستقيم، فالطّغاة يعلمون أن أول التقهقر خطوة إلى الوراء".

ومن أمثلة هذه الأساليب في واقعنا المعاصر:"ما يؤسسه كثير من الطواغيت من برلمانات ومجالس أمة وأشباهها.. ليجمعوا فيها خصومهم من الدعاة وغيرهم، فيجالسونهم فيها ويقاعدونهم ويختلطون بهم، حتى يُميعوا القضية بينهم، فلا تعود المسألة مسألة براءة منهم أو كفر بقوانينهم ودساتيرهم أو انخلاع من باطلهم كله.. بل تعاون وتآزر ومناصحة وجلوس على طاولة الحوار لأجل صالح البلاد واقتصادها وأمنها ولأجل الوطن الذي يتحكم به الطاغوت ويحكمه بأهوائه وكفرياته"..
مضيفا:"ومن ذلك أيضًا ما يلجأ إليه كثير من هؤلاء الطواغيت من تجنيد العلماء وشغل أوقاتهم لصالحهم في محاربة خصومهم ومن يخافونهم على أنظمتهم وحكوماتهم،..ومن ذلك أيضًا إغراء المؤمنين والدعاة بالمناصب والمراكز والوظائف والألقاب.. ومنحهم الامتيازات والأموال والمساكن، والإغداق عليهم بالخيرات وغير ذلك،حتى يقيدوهم ويثقلوهم ويقفلوا أفواههم بها".

ويعتبر "المقدسى" المؤسسات الإسلامية من قبيل أساليب المخادعة والمداهنة،فيقول:"ومن قبيل ذلك أيضًا روابط ومؤسسات الضرار التي يؤسسها هؤلاء الطواغيت، كرابطة العالم الإسلامي التي انخدع بها كثير من علمائنا المساكين رغم خطها المكشوف الأسود المداهن لكثير من الحكومات الفاسدة عمومًا، وللحكومة السعودية وطواغيتها خصوصًا.. وعلى كل حال فهذه المؤسسة وأمثالها لن تعدو كونها مؤسسة حكومية ولقد اعتدنا ألا نثق بما يأتي من الحكومات،ومنه أيضًا ما يمنحونه لكثير من الدعاة من أذون وتراخيص للدعوة والخطابة وما ينشئونه من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تعمل على استيعاب واحتواء الدعاة المتحمسين وصدهم عن منكرات الحكومات وسياساتها وباطلها وفساد طواغيتها الكبير.. بشغلهم ببعض منكرات العامة.. خلاصة تلك المنكرات التي قد تهدد أمن الدولة واستقرار حكم الطواغيت.. ولن يتعدوها إلى مستويات أعلى وأعظم ما داموا قد ربطوا أنفسهم بتلك الهيئات أو ذلك الإذن الذي يتحكم فيهم وفي دعواتهم.. ويشدهم شدًا".

ويحتج "المقدسى"،بعديد من الآيات القرآنية،التي يلوى عنقها،ليدلل بها على رأيه،حيث حشدها في نهاية كتابه،داعيا أتباعه إلى التمسك بالجهاد ضد كل من ليسوا على "ملة إبراهيم"،منها:"فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا"،"ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا، وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"،و"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون".
وينهى "المقدسى" كتابه بسؤال حاسم،هو: "إما شريعة الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، هذا هو الطريق.. فهل من رجال؟؟
الجريدة الرسمية