رئيس التحرير
عصام كامل

استراتيجية الاحتراز والتَّجَنُّب

فيتو

في غياب حرية التعبير يُنْفقُ الإنسان ثلاثة أرباع طاقته للدفاع عن حقه في استخدام الربع الباقي، وقد يحول فائض الحذر والاحتراز هذا الربع الأخير إلى الربع الخالي، وفي حالات كهذه لا يتحرك اللسان بحرية، لأنه مَشْكومٌ فيضطر كالخيل أن يُحَمْحِمَ بدلاً من أن يصهل بصوت جهوري، ولا تتحرك أصابع من يكتب أيضاً بحرية، لأن هناك خيوطاً غير مرئية تربطها كمسرح العرائس بيد من يجلسون وراء الكواليس .


وخسارة أي مجتمع من استراتيجية الاحتراز والتَّجَنُّب يُخطئها أذكى الحواسيب، لأن مساحة المسكوت عنه تتسع، وكذلك ما يتم التواطؤ عليه، سواء كان من ظواهر اجتماعية سلبية أو من مُمارسات سياسية خاطئة، وبمرور الوقت وتراكم المكبوت تصبح الأصابع مُدَرَّبة وحدها على التجنب والبحث عن ثغرات في الجدران أو النوافذ كبديل للأبواب، لهذا يُصاب هذا التسلل الاضطراري بما تصاب به بعض الطائرات إذا حدث لها ذلك، والفارق أن الطائرة إذا هبطت اضطرارياً تجد المطافئ بانتظارها كي لا تحترق، أما المتسلل للتعبير عما يشعر به من الشقوق وليس من الأبواب فهو أشبه بلاعب السيرك الذي لا يُسمح له حتى بخطأ واحد، فإما التَّصْفيق وهو يستعرض رشاقته على الحبال أو السُّقوط الممُيت .

وقد يكون الصمت أجدى وأكرم من التجنب والاحتراز والإفراط في الحذر حتى التّعَثُر، لأن الكلام بنصف لسان يُهرب الحقائق، وأحيانآً ينطق بمبتدأ الجملة حاذفاً خبرها، على طريقة: لا تقربوا الصلاة .

في فترة حالكة من تاريخنا العربي وقبل أكثر من قرن وشى متطوع بمعلم مدرسة قائلاً: إنه يستخدم مصطلح الماء في الكيمياء بشكل سياسي ورمزي، فالحروف H20 تعني أن حميد الثاني صفر، ونكّل يومئذ بهذا المعلم، وفي أقاصي الاستبداد يصبح العقاب على النوايا حتى لو لم تترجم إلى أفعال أو كلام .
وثمة عسس مدربون على قراءة النوايا لكن لا ندري في أي جحيم أو هاوية، لأن الثقافة الإنسانية منذ بواكيرها حتى الآن لم تقدم لنا أكاديميات متخصصة في هذا الفقه الغيبي، وللمثال فقط نذكر ذلك العقاب الذي مارسه الاحتلال في فلسطين بحق شاعر عندما فرض عليه الإقامة الجبرية في بيته، لأن فقهاء الظلام قالوا إن ضفائر حبيبته التي تحدث عنها هي سنابل القمح، والمنجل الذي حَصدها هو سلاح الاحتلال .

استراتيجية التَّجَنُّب وُلدت لكي تُؤثر السَّلامة، وهي ليست للأفكار فقط .

وَيُرْوى عن زعيم عربي في عشرينات القرن الماضي أنه كان يفرط في الأخطاء النحوية عندما يخطب بالفصحى، فنصحه أحد مستشاريه بتسكين أواخر الكلمات، وسميت هذه النصيحة يومئذ “سَكِّنْ . . تَسْلَمْ”، على غرار الشعار الذي كان سائداً في تلك الأيام وهو: “فَرّقْ . . تَسُدْ” .

ما يغيب عنا أن ما نَتَجنّبه ونحاذر من الاقتراب منه، قد يكون جَذر الدّاء والبلاء الذي يتفاقم بعيداً عن أي نقد أو مراجعة، فهل ندفع الآن بالجملة ثمن ما تجنبناه مراراً بالتقسيط؟ وهل أضاف التاريخ كعادته نسبة من الرِّبا السياسي إلى تلك المديونية الباهظة عندما أزف وقت التسديد؟، إن المقابل الحيوي والفاعل لاستراتيجية التجنب والاحتراز هو المجابهة حتى لو كانت موتاً لموت وليس فقط وجهاً لوجه .

نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية