رئيس التحرير
عصام كامل

تعذيب مصر اليتيمة


لو أن يتيمًا أو طفلَ شوارع طلب صدقة لمنحته إياها داعيًا المولى أن يزيح عنك، ولو أنك أصبحت أكثر شياكة ونزاهة لذهبت إلى جمعية ترعاهم لتخلق بنفسك وسيطًا بينك وبين ربك في أداء الزكاة، ومنحت رئيسها ومجلس إدارتها، المتطوع ولامؤاخذة، الأموال لقاء إيصالات رسمية تتباهى بها، وتركته يتصرف فيها كيفما يشاء، فيصلح بها من يصلح من المبادرين بالعمل الأهلي الحقيقي، ما حولهم من أوضاع أولئك وغيرهم المتردية، ويفسد من يفسد بطرق مثبتة أو عبر أساليب ملتوية يتحايلون بها عليك وعلى القانون، فتتغير أوضاعهم تمامًا، ويظل الأيتام والفقراء وأطفال الشوارع والمشردون كما هم لا تغيير إيجابيا يطرأ على أحوالهم.

تلك خلاصة مفاهيم العمل التطوعى التي تنقلها إليك سريعًا مشاهد جريمة تعذيب وإهانة أطفال جمعية ودار أيتام الهرم، التي صورتها وسربتها زوجة المتهم بارتكاب فعل فاجر، بعد مرور عام كامل على الواقعة، حسبما نقلت وسائل إعلام عنها، والتي تشير من ناحية أخرى إلى حجم الإهمال في أداء موظفى التضامن الاجتماعى في تفعيل الرقابة على جمعيات طالما فضحت تقارير سابقة لمؤسسات حقوقية، بينها المجموعة المتحدة، فسادًا لا حدود له يتمثل أبسطه في تعطيل العمل الجاد ورهن حصول مؤسسات على دعم لمشروعاتها بتعيين أبناء موظفى التضامن على قوائم فرق العمل بها.

مشاهد تعذيب أطفال الهرم الأيتام والمشردين عززت لدى المطلعين على حقيقة العمل "الخيرى" في مصر، أن ملوثين أصبحت مهمتهم "اشتغال" أصحاب المال والمتبرعين، وتصوير أنفسهم داخل النطاق الجغرافى لعمل جمعياتهم على أنهم أهل بر وتقوى، ووصل الهبل ببعضهم حد تصوير نفسه بين المغيبين على أنه "واهب" الرزق والقادر الأوحد على جلبه، ولا تساؤلات يثيرها الساذجون حول نشاطه الذي لا يخدم أكثر من مصالحه.

ربما مواقف عدة مررت بها في حياتى جعلت مشاهد تعذيب أيتام مصر تعيد المرارة إلى نفسى، يوم أن نقلت إلى نسوة قبل 10 سنوات أنهن يحصلن على أموال تبرعات أقل من المثبتة دفتريًا لدى رئيس الجمعية التي يذهبون إليها شهريًا، ويوم أن شهدت إخوانًا متاجرين بالإسلام يعيدون إنتاج الفقر بتوزيع وجبات على المحتاجين طلبًا لأصواتهم في معركة سياسية، ويوم أن شهدت بنفسى ابتزاز رئيس جمعية دعم مكفوفين ومعاقين، لمرشح في انتخابات برلمانية ووعده بأصوات هؤلاء لقاء 400 جنيه عن كل صوت يخرج لتأييده من قوائم المستفيدين بنشاط جمعيته، ويوم أن استمعت لأصوات المتاجرين بأزمات سوريا ترتفع في مكبرات مساجد تديرها جمعياتهم قبل عامين، تدعو الناس لـ"ستر" أخت سورية بالزواج منها لقاء مهر لا يزيد على ألف جنيه.

لاعبو العمل الأهلي في مصر يتحركون طبقًا لخطط فنية ترسمها ضمائرهم، وتغيرها نسبيًا ضوابط وقوانين وأطر تشريعية ولوائح، وتجهضها وتسقط أهدافها الممكنة جريمة الفساد المدعومة بجهل عام بطبيعة دور المؤسسات المدنية والجمعيات الأهلية، والنتيجة تقييد شديد للعمل الأهلي الجاد بنوعيه الحقوقى والخدمى، وتعطيل خطط ومبادرات فردية وجماعية حقيقية يمكنها إحداث تغيير حقيقي في حياة المهمشين، وسيادة وتعميم النماذج الأسوأ وبروزها تارة تحت عباءة السلطة وأخرى في خدمة المتاجرين بالدين، لتظل المليارات من أموال المنح والمعونات والزكاة والصدقات مهدرة في حرث يستهدف مستنقعات، ويظل المهمشون والمحتاجون على أحوالهم دون تغيير، فيخرج من بينهم الأميون والمرضى والمجرمون والمشردون والمتعطلون الذين يتحولون إلى مجرد أرقام في إحصاءات.

ربما لم نشعر بهزة لضمير دولة بعد فضح مشاهد تعذيب أيتام ومشردى الهرم، فقد اعتاد حراس دواوينها تعذيب شعبها بطرق شتى لعقود طويلة دون عقاب.

الجريدة الرسمية