رئيس التحرير
عصام كامل

"محمد رفعت" سيد الوقف البديع.. صوت ملائكى يأتى من السماء.. تميز بالقدرة على تجسـيد المعانى القرآنية في آيات الجنة والنار.. أصيب بسرطان الحنجرة ورفض تبرعات محبيه

الشيخ محمد رفعت
الشيخ محمد رفعت

صوته وهو يتلو آيات الذكر الحكيم، يجبر كل من يستمع إليه على أن ينصت لآيات المولى عز وجل، فيخشع قلبه وتدمع عيناه، وتسري قشعريرة في جسده لا يفيق منها إلا مع سماعه "صدق الله العظيم"، وكأنه عاد من عالم آخر كان يسبح فيه، هكذا يصنع بنا القارئ الشيخ محمد رفعت، هذا الشيخ الجليل الذي حباه الله بصوت ملائكي، كان سببًا في أن يلقب بـ"المعجزة".


حسنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوتَ الحسنَ يزيد القرآن حسنًا" رواه الدارمي والحاكم، هكذا ربانا سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في مدرسته النبوبة، ليفصل الحديث في عصرنا هذا على شيخنا الجليل محمد رفعت.

صنع لنفسه بصوته وإتقانه مكانًا محفوظًا، في وسط العالم الإسلامي أجمع، وتهافت عليه الغرب قبل العرب، فهو من تميز بالاهتمام بمخارج الحروف وكان يعطي كل حرف حقه لكي يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان الانتقال بين القراءات بالنسبة له أمرًا سهلًا، فلم يكن يتوقف عند قراءة حفص عن عاصم التي اشتهر بها، فصوته يحوي مقامات موسيقية مختلفة ويستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف.

القدر كان صاحب فضل في أن يحيا صوت الشيخ رفعت منذ عشرات السنين، ويحيا لمئات السنين المقبلة، ففي عام 1934 م وبينما كان الشيخ رفعت يقرأ في أحد المآتم، استمع إليه البرنس محمد على صدفة فأعجب به وبصوته وأسلوب تلاوته فأرسل إليه وطلب منه أن يفتتح الإذاعة الأهلية بتلاوة القرآن الكريم، ولأن تلاوة القرآن في الإذاعة كانت شيئًا جديدًا على المسلمين، استفتى الشيخ رفعت شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتى له بجواز ذلك فافتتحها بقوله تعالى "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، وكان بذلك أول قارئ بالإذاعة الأهلية.

"صاحب الصوت الذهبي الذي يطوف بنا عبر العوالم القدسية من خلال آيات القرآن الكريم، كان صوته بالفعل يغوص في أعماق الوجدان والروح والعقل والإدراك الذي يأتي بفيض العطاء الذي يهب السامع نفحة هائلة من حلاوة الإيمان، في ذلك الوقت كانت الأسطوانات قد اخترعت وكأنما جاءت في وقتها المناسب حتى لا تفوت الأجيال اللاحقة فرصة الاستماع إلى هذا الصوت الرائع.. النادر الوجود، وكان بعض الناس لا يستطيعون سماع صوت الشيخ رفعت إلا إذا كانوا على وضوء حتى يستقبلوا إشراقات الصوت بما يليق به من طهارة وخشوع".. هكذا تحدث الراحل الشيخ محمد متولى الشعراوي عن صوت محمد رفعت الذي كان يسعى خلفه هو وزملاؤه في الجامعة أينما ذهب خلال عقد الثلاثينيات فإذا عرفوا أنه سيحيي ليلة ذهبوا إليه.

وأضاف "الشعراوي": إن كان قد من على الشيخ رفعت بصوت فريد الجمال، فقد من عليه أيضا بنعمة المقدرة على تجسيد المعاني إلى درجة يكاد معها الإنسان ينظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلي أهل النار في النار وهم يعذبون.

تلاوة الشيخ "رفعت" اخترقت صدور الغرب، مثلما حدث مع العرب والمسلمين، فعقب تسجيله بالإذاعة الأهلية، أرسلت إليه هيئة الإذاعة البريطانية الـــ"بي بي سي" تطلب منه تسجيل القرآن بصوته، فرفض في البداية ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم، وتوالت بعدها التسجيلات.

هذا الصوت الذي قال عنه مفتي سوريا إن "الشيخ رفعت له صوت يسيطر على المشاعر ويتسلل إلى السويداء، حيث يسكن القلب والعقل ويغلفهما بغلاف روحي له جرس مميز، ولقد جدد "الشيخ رفعت" شباب الإسلام لصوته الفريد في ترتيل آيات القرآن الكريم"، كان سببًا في أن يدخل الإسلام على يده أجانب، لما أحدثه صوته من تأثير في نفوسهم، مثل واقعة أحد الضباط "الكنديين" أثناء الحرب العالمية، الذي ذهب إلى دار الإذاعة المصرية وكان مديرها إنجليزيا آنذاك وطلب الضابط الكندي من مدير الإذاعة الإنجليزي أن يعرفه بالشيخ محمد رفعت، فتعجب من ذلك الطلب وسأله: ولماذا تريد التعرف بالشيخ رفعت؟ فقال الضابط الكندي: لقد سمعت صوته وأنا أقلب محطات المذياع، فحدث تغير في كل كياني حتى أن صوته قد ملك على مشاعري، فلم أتمالك نفسي من البكاء بسبب تأثير ذلك الصوت السماوي في أحاسيسي.

ولم يكن 'الضابط' يعرف أن الذي يقرأه 'الشيخ رفعت' هو القرآن الكريم، وبينما هما يتكلمان دخل الشيخ رفعت إلى 'الاستديو' وعرف الضابط بعد مقابلته أن الذي أثر فيه بجوار صوت الشيخ هو القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله صلى عليه وسلم بواسطة الوحي، وأن الدين الذي بشر به هو الدين الإسلامي.

وطلب 'الضابط' الكندي من رئيس الإذاعة أن يترجم له بعض آيات الذكر الحكيم فترجم له ما يدل على وحدانية وسماحة الإسلام..

وظل الشيخ رفعت يتلو الآيات والمدير يترجم، ومازال الكندي يستمع باهتمام شديد وأخذ 'الضابط الكندي' يتردد على الشيخ 'رفعت' يوميا ليسأل والشيخ يجيبه ,حتى وقر الإيمان في قلبه, فأشهر الضابط إسلامه, ثم عاد إلى بلاده ليكتب في صحفها عن ذلك الدين العظيم.

"ملائكي يأتي من السماء لأول مرة".. هكذا وصفه الموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي فتن بصوت الشيخ رفعت، وأصبح ضمن قائمة طويلة من المريدين للشيخ، عشق صوته، وزلزلت آيات القرآن بصوته وجدانه.

ولد الشيخ محمد رفعت في مايو1882 بحي المغربلين بالقاهرة، وفقد بصره وهو في الثانية من عمره، وحفظ القرآن في الخامسة، وفى التاسعة توفى والده، ليصبح عائل الأسرة، ويتجه لقراءة القرآن كمورد رزق لأسرته.

وفى 1943، ابتلى الشيخ رفعت بسرطان الحنجرة، وقلت تسجيلاته في الإذاعة، حتى امتنع نهائيا، وتوقف مورد رزقه، واشتد المرض، وهو ما دفع الكاتب والصحفي الكبير الأستاذ أحمد الصاوي إلى فتح اكتتاب لعلاج الشيخ محمد رفعت، فأثار ذلك الخبر حزن محبيه والمعجبين بصوته وتم جمع ما يزيد على 50 ألف جنيه وعندما علم الشيخ رفعت بذلك قال: أنا مستور والحمد لله ولست في الحالة التي تستوجب جمع هذه المبالغ وإذا كان على العلاج فالأطباء يعالجونني ولكنهم لم يستطيعوا وقف هذا المرض ومنعه ,كما أن هذه المبالغ أصحابها أولى بها مني, فهم الفقراء والمحبون لصوتي حقًا ,ولكني والحمد لله لست في حاجة إلى كل هذا المال.

وبعث باعتذار لـ"الصاوى" قال فيه: أعتذر عن عدم قبول هذه التبرعات ,وأن مرضي بيد الله وهو القادر على شفائي ,وإني لأشكرك, وأرجو أن تشكر كل الذين جمعوا لي هذه التبرعات على روحهم الطيبة وحبهم لي، ليرحل بعدها بعام 1950، لينعيه على خليل شيخ الإذاعيين، قائلا: "كان هادئ النفس، تحس وأنت جالس معه أن الرجل مستمتع بحياته وكأنه في جنة الخلد، كان كيانًا ملائكيًّا، ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض.

تقول الكاتبة سناء البيسى عن الشيخ رفعت:
"يطمئن ضمير الشيخ محمد رفعت ويجلس إلى ميكروفون الإذاعة ليرتل بصوته الملائكي فتخفق لصوته قلوب الملايين العطشي لما جاء في أعظم كتاب‏،‏ الذين يدركون أنه ليس يقرأ فحسب قراءة تسميع وحفظ بل قراءة شرح وتفسير وتنوير وتشخيص‏..‏ قراءة فذة كأنك لا تسمع بل تشاهد‏،‏ ولا تشاهد بل تعايش‏..‏ ذروة توقظ العقل وتشيع في الوجدان وكأنك تعيش لحظة نزول الوحي على سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم‏..‏ يرتل القرآن ترتيلا‏،‏ والترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف‏..‏ يقرأ القرآن بحزن وشجن كما قال صلي الله عليه وسلم‏:‏ إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن‏..‏ سيد التصوير والدراما للمشاهد القرآنية في سور البقرة والرعد والمائدة والأنعام والكهف ومريم وطه والقمر وغيرها.

فهو مثلا في سورة البقرة يصور الحوار وكأنه يسمعه بدقة شديدة في أمر ذبح البقرة التي أمر الله على لسان سيدنا موسى بذبحها‏:‏ "وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ".. حتى نهاية الآيات‏،‏ وكيف يتغير الحوار ليظهر كثرة جدل بني إسرائيل‏،‏ وفي سورة المائدة يغضب غضبة شديدة لله حين يقرأ بعنف وحدة "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا", وكيف يضغط على حروف كلمة "غلت" وكلمة "لعنوا‏"..‏ وفي سورة الكهف يصور حال أصحابه أبدع تصوير بحنجرته الذهبية وكأنه يراهم‏:‏ "وتري الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه‏".

كما يصور الحوار الجدلي العجيب بين سيدنا موسى والخضر, بما فيه من رجاء واتفاق وانطلاق ثم استنكار واعتذار وافتراق‏‏..‏ وفي سورة هود يقرأ ويبشر "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ", فيكررها‏6‏ مرات مختلفات بشكل يفوق كل وصف ,بقصد الحث والترغيب والتجميل والتشويق‏..‏
وفي سورة التوبة يقرأ ويبشر‏:‏ "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله", فيكررها‏6‏ مرات‏ أيضا.
وكان الشيخ محمد رفعت سيد الوقف البديع‏،‏ فلم يقف أحد قبله أو بعده عند كلمة "فانطلقا", وذلك في سورة الكهف لدى قراءاته للآيات "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا", وذلك ليعطي تصويرا دقيقا للسؤال والاعتراض ثم الاتفاق والانطلاق‏.

الشيخ محمد رفعت‏..‏ حمل القرآن فكان أحسن من رتله‏..‏ أحسسنا معه بالرهبة عند الزجر‏،‏ والطاعة عند الأمر‏،‏ والخشية عند الوعيد‏،‏ والهلع عند التهديد‏،‏ والعطف والإحسان عند رحمة الرحمن‏،‏ والأمل عند التوبة والغفران‏..‏ الشيخ محمد رفعت سيد القارئين وإمام المجودين والمرتلين ما أبلغه وأجمله عندما رتل كلمة "الرحمن"‏..‏ كلمة واحدة في معناها الرحمة وفي رنينها الإعلان‏،‏ ومن بعدها معرض لآلاء ونعم الرحمن‏..‏ الرحمن‏..‏ المطلع المقصود بلفظه ومعناه‏،‏ وإيقاعه وموسيقاه‏..‏ الرحمن‏..‏ بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد‏،‏ يجلجل في طباق الوجود‏،‏ ويخاطب كل موجود‏،‏ ويتلفت على رنته كل كائن‏،‏ وهو يملأ فضاء السماوات والأرض‏،‏ ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب‏..‏ الرحمن‏..‏ وينصت الوجود كله‏،‏ في ارتقاب الخبر العظيم من بعد المطلع العظيم‏.‏

ثم يجيء الخبر المترقب‏،‏ الذي يخفق له ضمير الوجود‏:‏ "الرحمن‏ علم القرآن‏ خلق الإنسان علمه البيان‏ الشمس والقمر بحسبان‏ والنجم والشجر يسجدان‏ والسماء رفعها ووضع الميزان‏ ألا تطغوا في الميزان‏ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏ والأرض وضعها للأنام  فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام‏ والحب ذو العصف والريحان‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان"‏..‏ ويغسل الصوت الملائكي أدران القلوب بالإيقاع الأخير‏،‏ تسبيحا باسم الجليل الكريم عندما يفني كل حي‏،‏ ويبقي وجهه الكريم‏:‏ "تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام"‏.‏

الجريدة الرسمية