الدواء المر... "صدمة" المضطر
بكى شيخ دين خليجي على الهواء مباشرة، حين هاتفه صومالي خلال الحلقة، وسأله: "يا شيخ هل صيامنا في الصومال مقبول بدون إفطار ولا سحور؟"... لم يتمكن الشيخ من الإجابة وانهمرت دموعه، لأن الغني ينعم بمليارات الدولارات بينما لا يجد الفقير كسرة خبز... تذكرت الاتصال القاسي بعد كلمة الرئيس السيسي في ذكرى العاشر من رمضان، حيث دمج بذكاء شديد وبساطة بين صمود وصبر المصريين على المعاناة والتقشف حتى تحقق النصر وحررنا الأرض واستعدنا الكرامة، وبين القرارات الصعبة التي "اضطر" إلى إنفاذها لرفع الدعم عن الوقود والكهرباء وزيادة أسعارها.
اعتبر السيسي أن تحريك الأسعار وإلغاء الدعم "دوا مر" يجب أن يتجرعه الجميع في مصر، حتى وإن خصم من شعبيته ومحبة الناس له، وهو هنا تحمل مسئوليته بجرأة وشجاعة نادرة، لكن كانت المشكلة أن تطبيق القرار جاء في التوقيت الخطأ، بعد أقل من شهر على تولي السيسي الحكم، وأيضا في الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك، وزاد من الشك والريبة أن الحكومة بدأت التنفيذ دون مقدمات عند منتصف الليل. ما جعله يبدو "أمرا دبر بليل"، كما أن إطلالة رئيس الحكومة إبراهيم محلب في مؤتمر صحفي لتفسير الأمر لم تكن موفقة ولم تقنع المواطن البسيط وزادت من تأثير "صدمة" القرارات المفاجئة، وهذا ما استغله أعداء مصر في الداخل والخارج... إذ أشاعوا أن القرارات ضد المواطنين، وأنها وسيلة "العاجز" الذي يستسهل الأمر بفرض ضرائب على الشعب وتحريك الأسعار لسد الفجوة بين الموارد والإنفاق.
لكن عندما يزول تأثير "الصدمة"، ويفكر المصري في الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس السيسي، يعرف أنه "مضطر" إلى ذلك، وفي الوقت نفسه يعمل لصالح البلد، لأنه إن استمر في سياسة "الاستدانة" سيظل قرار مصر بيد الدول التي تمنحنا القروض، كما أنه يحفظ كرامة الشعب بالاعتماد على مواردنا القليلة مع شىء من التقشف حتى لا ننتظر المنح والمساعدات العربية التي عشنا عليها طوال العام الماضي.
قرار إلغاء الدعم تأخر عشرات السنين خشية رد الفعل الشعبي، وهو في حقيقة الأمر لم يكن يصل إلى مستحقيه، فالأثرياء يهدرون البنزين المدعوم في سياراتهم الفارهة، بينما يستقل المواطن البسيط وسائل النقل العامة ولا يستفيد من دعم الوقود. والأمر نفسه بالنسبة للكهرباء، لأن الفقير لا يأخذ من الدعم إلا لإنارة شقة متواضعة، فيما تستهلك مليارات الدعم في إضاءة قصور وفلل الأثرياء، الذين يجمعون المليارات في وقت تزيد فيه معاناة الفقير.. ومع رفع الدعم سيدفع الأثرياء الأسعار المستحقة، وتوفر الدولة مليارات الدعم لسد العجز في الموازنة وتمويل مشروعات خدمية يحتاجها الفقير منها الصحة والتعليم وتحديث البنية التحتية وغيرها الكثير.
السيسي اتخذ القرار الصعب ونفذه بشجاعة، لكن يبقى على الحكومة إيجاد وسائل فعالة للحد من الارتفاع الجنوني في أسعار جميع الخدمات والسلع المرتبطة بشكل أو بآخر بالطاقة... خصوصا في ظل عدم وجود رقابة حكومية في مواجهة الاستغلال، ويزيد من صعوبة الرقابة على المستغلين عدم وجود مجالس محلية تتولى المهمة في المحافظات والمراكز، أما مسألة تخصيص خط ساخن للإبلاغ عن المستغلين ورافعي الأسعار فهي غير مجدية ولن تحقق الرقابة المطلوبة.
كرر الرئيس السيسي مرات عدة عبارة "أن الشعب المصري لم يجد من يحنو عليه"، وحتى يكون هو صاحب اليد الحانية، عليه تعويض الفقراء بأي وسيلة كانت والسعي إلى تخفيف أعباء ارتفاع أسعار السلع والخدمات الملقاة على كاهلهم، وفي المقابل لا يكفي أن يطلب السيسي من الأثرياء التبرع لصالح صندوق "تحيا مصر"، وبعد بادر هو بالتنازل عن نصف راتبه ونصف ثروته، بات لزاما فرض ضريبة تدفع مرة واحدة لمن تزيد ثروته عن رقم تحدده الحكومة، لأن التجارب السابقة أثبتت أن قلة من الأثرياء يتبرعون خوفا على أموالهم.. بينما يسارع الموظف والفقير بالتبرع ولو بالقليل.