رئيس التحرير
عصام كامل

شجرة الأقلام


هل أبكى عبد الله كمال.. أم أبكى نفسى.. هل أبكى زمن الصداقة والبراءة والبدايات.. أم أبكى زمن النهايات والمصالح والبعاد.. هل أبكى كثير ما مرَ وما فات.. أم أبكى قليل ما هو باقٍ وما هو آت.. هل أبكى صديقًا باغتنى وفاجأنى برحيله.. أم أبكى غربة حرمتنى وداع صديق عُمْر.. هل أبكى الرحيل..أم أبكى البعاد..


اختلط البكاء بالبكاء يا عبد الله.. واختلطت الدموع بالدموع.. لم يكن "عبد الله" مجرد صديق.. بل كان شريك حلم.. ورفيق أيام مضت بحلوها قبل مرها.. مضت وتركت الذكرى نستعيدها المرة بعد المرة حسرة على زمن عشناه.. وبشر عرفناهم.. منهم الأوفياء.. ومنهم من عادوا الوفاء.. 

عرفته في بدايات عمله في روزاليوسف.. وبدايات عملى بالتليفزيون..التقينا صدفة ودون ميعاد.. مجرد مذيع شاب ذهب لروزاليوسف ليسجل حلقة من برنامج يومى.. "غدًا تقول الصحافة".. تجربة جديدة لتقديم ما تقوله الصحف ليلة صدورها.. كان ما زال صحفيًا في "الديسك".. مطبخ المجلة.. حيث يتم صياغة وإعداد المادة الصحفية للنشر.. كان زميلًا في غرفة واحدة لإبراهيم عيسى وإبراهيم منصور وعمرو خفاجى.. وتعارفنا.. ولكن علاقتى بعبد الله كانت تآلفًا.. كان أقربهم إلىَّ.. وقد أثبتت الأيام ذلك.. لم يكن مجاملًا.. كان جادًا أو يتصنع الجدية فخلف هذه الجدية.. براءة طفل كبير.. وعقل متوهج.. وقلب أبيض.. وطموح بلاحدود.. 

ظل على وفائه لروزاليوسف رغم كل شىء.. تغير رؤساء تحريرها وخرج من الزملاء من خرج بحثًا عن المناصب أو الأموال.. وبقى على وفائه لمجلته أو محبوبته حتى تبوأ رئاسة تحريرها.. 

لم يتوقف طموحه بهذا المنصب.. بل سعى لإصدار أو لإعادة إصدار صحيفة روزاليوسف.. ورغم ما لاقاه من تهكم وسخرية من كثيرين.. ورغم اتهامات الآخرين له وللصحيفة بالفشل.. ظل يحاول الوصول بها إلى بر الأمان ليثبت للجميع أن حلمه ليس وهمًا.. ولكن الرياح لا تأتى دائمًا بما تشتهى السفن.. سقط نظام مبارك الذي ارتبط به عبد الله.. غير أنه لم يفر من المركب كما فر آخرون.. ولم يتنكر للرجل كما تنكر آخرون.. ظل وفيًا للرجل.. يقول ما له وما عليه.. ولكنه لم يتلون ولم يُغير جلده كما غير آخرون وما يزالون.. 

الوفاء كان أصيلًا فيه.. ولم يدعه.. لم يكن وفيًا للبشر فقط.. بل لكل شىء عرفه في حياته.. كان "عِشَرى".. "ابن أصل" بكل ما في الكلمة من معنى..

عندما زرته بعد تغريبتى الأولى في المجلة.. رأيت ولأول مرة.. فوق مكتبه كمساعد لرئيس التحرير.. صندوقًا كبيرًا بلاستيكيًا شفافًا.. كان يضع فيه أقلامه التي جف حبرها.. أو انتهى عمرها.. لم يكن يحتفظ بها للتباهى بعدد ما استخدم من أقلام.. بل لأنها شهود على ما قدم من كلمات وأفكار.. لم يكن يُلقى بها وقد انتهى دورها بل كان يُبقى عليها.. يحتفظ بها.. يضعها أمام عينه لتُذكره بما مضى وبما كتب.. إنهم رفقاء الرحلة.. وزملاء المشوار.. هي "العِشرة" حتى للأقلام التي تعددت وتنوعت بتعدد وتنوع كتاباته. 

كنت أسميها "مقبرة الأقلام".. ولكنه لم يكن يسميها كذلك.. بل أظنه كان يراها" شجرة الأقلام".. التي تطرح بحبرها كلماته.. وتصوع بسنها أفكاره على الأوراق.. 

أعتقد أن قلمة الأخير لن يجاور زملاءه القدامى.. وإن كان جزءًا من شجرة الأقلام أو شجرة الأحلام.. فمازال في حبره بقية.. ومازالت هناك كلمات لم يكتبها لأن صاحبه وصاحبها لم يجر بسنِه بها على الأوراق.. 
فإلى لقاء يا عبد الله..

الجريدة الرسمية