“مَلْشَنَةُ” الدولة
ضطر أحياناً إلى مثل هذه الاشتقاقات لسببين، أولهما الاختصار والوصول إلى الهدف من أقصر الطرق، وثانيهما درءاً لالتباسات محتملة، فالملشنة هي تحويل الدولة إلى ميليشيا، وسواء كان النموذج قديماً كلبنان، أو حديثاً كمصر، فإن ما يجري هو العودة إلى ما قبل الدولة، وتبنّي السلطة موقفاً حزبياً أو فئوياً، بحيث تكون الموالاة لهذا الموقف بالتحديد، رغم أن أنظمة الحكم التي تأتي بالديمقراطية، ومن خلال صناديقها تكفّ فوراً عن الملشنة أو اعتبار نفسها تمثل فقط من انتخبوها، أما الآخرون سواء كانوا معارضة منظمة أو مستقلين فهم ليسوا من أهل الدار .
خطورة هذا التحول للدولة لا تهدد الدولة بمعناها الدقيق فقط، بل تحرّض من حيث لا تدري على خلق دول صغرى داخلها . وما إن يتحقق ذلك حتى تصبح الدولة في خبر كان، ويتولى الشارع الأمر بعفويته، وبكل الثقوب التي يتسلل منها أصحاب الأغراض الخاصة، وهذا بحدّ ذاته صناعة للفتنة، رغم الادعاء بعكس ذلك . وفي أمريكا تراجع الرئيس أوباما مؤخراً عن تعيين سوزان رايس وزيرة للخارجية، لأن أعضاء من الحزب الجمهوري المنافس في الكونغرس اعترضوا على ذلك . ليس لأن رايس لم تَرُق لهم شكلاً أو اسماً أو لوناً، بل لأن موقفهم المضاد منها جاء لأسباب وطنية أمريكية كما يتصورون، وهو التقصير في أحداث ليبيا التي أدت إلى مصرع سفير ودبلوماسيين أمريكيين .
ولا تبدأ ملشنة الدول بقرار أو حتى بموقف من زعيم حزب أو تيار، فهي تراكم لقرارات يأخذها النظام لمصلحة أنصاره وناخبيه، وهذا الإقصاء سرعان ما يؤدي إلى التئام التيارات المتضررة التي قد تكون ذات وجهات نظر متباينة، وأحياناً متناقضة . وإذا أصبح الحزب الحاكم ميليشيا، فإن ولادة ميليشيات أخرى ستكون مبررة من وجهة نظر أصحابها .
والنموذج اللبناني الذي حوّل مصطلح اللبننة إلى بارومتر تقاس عليه ومن خلاله التجارب المماثلة، أدى إلى ما يشبه طبعة محلية وشعبية من تقسيم سايكس - بيكو، وقد مرّ وقت كانت فيه بيروت مقسّمة أو مشطورة كبيضة أفلاطون الشهيرة بين شرقية وغربية، وكانت الحواجز تقوم مقام سور برلين .
اللبنانيون جميعاً دفعوا الثمن، لأن الملشنة تبدأ حرباً أهلية باردة، ثم تسخن بالتدريج، لهذا يخطئ من يؤرخ للحرب الأهلية اللبنانية بحادثة باص العام ،1975 لأن مثل هذه الأحداث هي القشّة التي تقصم ظهر الوطن، وليس البعير فحسب .
ما سمعناه قبل أيام من عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الحاكم في مصر، عن تسليح مقرات الحزب وأعضائه، يُشعرنا بالفزع على مستقبل مصر، لأن مثل هذا الطلب قد يجد صدى لدى آخرين يرون أن من حقهم التسلّح، عندئذٍ ينتقل الحوار في ميادين مصر وشوارعها إلى المرحلة الثالثة، فالمرحلة الأولى كانت كلامية، والثانية كانت تراشقاً بالخرطوش والحجارة والهجاء السياسي، أما الثالثة فهي بالفعل ثالثة الأثافي، كما كان يقول أجدادنا العرب . إنها السلاح، أداة الحرب الأهلية بامتياز، وإذا اندلعت فإنها سوق تأتي على أخضر الدولة أو ما تبقى منه، وعلى يابسها وما أكثره .
ولو كانت هناك أمصال تُباع في أسواق السياسة وبورصاتها لتلقيح الدول ضد الملشنة لهان الأمر، وتلقّحت مصر وسواها ضد فيروس الملشنة شديد التأقلم الذي لا تنفع معه كل المضادات الحيوية، سواء كانت أيديولوجية، أو من أي نمط آخر .
ولأن الخلط بين إسقاط أنظمة وتفكيك دول بدأ مبكراً، فإن السيناريو الأشد سوءاً هو الذي يلوح في الأفق، ولو عن بعد، فالسيئ أمكن عبوره إلى حد ما، وكذلك الأسوأ، أما الأشد سوءاً فهو هذه الملشنة بكل دلالاتها الانتحارية .
نقلاً عن الخليج الأماراتية