رئيس التحرير
عصام كامل

داخل متحف نجيب محفوظ.. سيرة «أديب نوبل» في انتظار «الحرافيش»

فيتو

مساحة قليلة من الوقت، تفصلك عن عالمك الذي تحياه، تأخذك بعيدا، إلى الوراء ربما لأكثر من ستين عاما، أغمض عينيك قليلا، تخيل نفسك تجلس في شرفتك أو ركن القراءة المحبب إليك في المنزل، بين يديك رواية تميل صفحاتها إلى الاصفرار، ممهورة باسم "نجيب محفوظ"، ربما تكون "الحرافيش"، الثلاثية، أولاد حارتنا، أو ربما قصة قصيرة أو مسرحية من إحدى مسرحياته ذات الفصل الواحد، لكنك هذه المرة لست مجرد قارئ ومتلق فحسب، بل فرد يحيا بين أبطال حكايات نجيب محفوظ التي لا تنتهي ولا ينضب معينها، وقتئذ ستدرك أنك في "متحف نجيب محفوظ" بتكية أبو الدهب في شارع الأزهر بالقاهرة".



ما إن تعبر الردهة خافتة الضوء التي تفصل الشارع الضيق القديم عن التكية، يقابلك حائط كبير مزين بالضوء البرتقالي وبعض الأشجار الصناعة الخضراء، وتنتصفه صورة لأديب نوبل وابن الحارة الذي نجح وبجدارة في نقل أبعادها النفسية والاجتماعية من خلال أبطالها لأجيال تلو الأخرى.

"فلسفة نجيب محفوظ دي فلسفة حياة يعني لا يمكن تموت أفكاره بموته، كل جملة مكتوبة على أي لوحة من لوحات المتحف تم اختيارها بعناية فائقة للغاية، كلها تعكس فلسفته وفكره وكيفية رؤيته للقضايا المجتمعية في مصر وقتذاك"، بهذه الكلمات بدأ "كريم الشابوري" المهندس المعماري والمصمم والمشرف العام على مكونات ومقتنيات المتحف.

عكف الشابوري على دراسة نجيب محفوظ دراسة كلية مدة ثلاثة أشهر:"من خلال متابعة لقاءاته وقراءة رواياته وأعماله الأدبية، حبيت يكون فيه روح ودم للعمل حبيت أتلبس بشخصية نجيب محفوظ وبالفعل نجحت في ده إلى حد كبير، خاصة وإني مكنتش من قبل متعمق في أدبه".

اليوم والذي يصادف انتصاف شهر يوليو، وبينما تفصلنا أيام قليلة عن ذكرى ميلاد أديب نوبل في الـ٣٠ من أغسطس، تعلن وزارة الثقافة رسميا افتتاح متحف نجيب محفوظ في المنطقة الأقرب إليه ومسقط رأسه بحي الأزهر والجمالية: "المشروع ده ليه سنوات كثيرة قيد الطرح وكان لأسباب تعود لطبيعة المكان خاصة قبل ترميم التكية، بيتم تأجيل التأسيس، حتى عام ٢٠١٦ بدأت الفكرة تتبلور وتم تكليفنا بوضع مخطط للمتحف وما سيكون عليه".


في الطابق الثاني للتكية حيث تتواجد قاعات المتحف وهي المكون الأساسي له، في حين يقتصر الطابق الأرضي على مكتبة تضم أعمال محفوظ ولوحات تحمل أهم عباراته مقتبسة من عدد من رواياته، فالطابق الثاني هو الكنز الثمين، هو الحياة الأخرى التي لا مكان فيها لشخص آخر غير "النجيب" فإذا قررت صعود الطابق الثاني والمرور على تلك القاعات، عليك أولا أن تنتزع ثوب "الأنا" وتلقيه بعيدا وتبدأ في خوض غمار حياة رجل رحل عن عالمنا منذ ١٣ عاما وبقي بيننا ويبدو أنه سيبقى أبد الدهر.


على لسان كريم الذي حفظ عن ظهر قلب كيف يسرد للسائلين ماذا تحوي قاعات المتحف، يمكننا أن نأخذ جولة سريعة في تلك القاعات، التفتيش إذا أردنا الدقة في عالم الموظف البسيط والصحفي بعد ذلك في جريدة الأهرام، والخجول الذي كان يخشى الوقوف على خشبة المسرح ومواجهة الجماهير وغيرها من الصفات التي يمكن أن تلقى على هذا الرجل.
المكان به أكثر من ٧ قاعات ما بين قاعة مخصصة لعرض الروايات التي تحولت لأفلام سينمائية، وأخرى تسمى الحارة وبها تعرض أعماله التي تناولت الحارة المصرية وثقافتها الخاصة، وقاعة ثالثة تحوي كل ما يتعلق من جائزة نوبل وكافة الشخصيات التي حصلت عليها وتعريف بألفريد نوبل صاحب الجائزة".

زحام شديد واختلاط للأصوات يسيطران على المشهد، يقطعهما صوت صادر عن القاعة الخاصة بالأوسمة والشهادات التي حصل عليها النجيب وهي نحو ٢٥ درعا وجائزة ووساما، صوت موسيقى تتر مسلسل "حديث الصباح والمساء" المأخوذ عن رواية له تحمل الاسم ذاته، وتعد أهم الأعمال الفنية التي أخذت عن عمل خطته يد نجيب محفوظ، "عندنا قاعة اسمها رثاء وبها تمثال لنصف جسد نجيب محفوظ، وقاعة خاصة بمقتنياته القلم وأدوات الحلاقة والبدلة المقربة له، وصور له مع كبار الكتاب والمثقفين والفنانين".


هذه القاعة على وجه الخصوص قد تخلد أركانها في رأسك طويلا، لا يمكنك أن تنسى الضوء الخافت وهو يسقط على ماكينة الحلاقة والقلم المُهدى من الأديب الكبير توفيق الحكيم، ومذكرات النجيب وساعة يده والعطور التي كان يستخدمها، وموسي الحلاقة المعدني وغيرهم، قد تشم رائحته هناك، قد يدور رأسك وتتزاحم الأسئلة على رأسك مثلما هو الحال حينما تتابع خيط رواية أو قصة من تأليفه، وتتساءل كما تساءلت فتاتان كانتا تقفان عند زاوية بالقاعة ذاتها "إزاي حياته كانت بسيطة وشبه حياة ناس عايشين وسطهم"، يأتيهما الرد سريعا من خلال عبارة فوق الحائط تسرد يوميات نجيب محفوظ من استيقاظه في الخامسة صباحا والسير من محل سكنه بالعجوزة حتى كورنيش النيل، حتى الساعات الليلية التي يقضيها بين رواد مقاهي وسط القاهرة والعباسية، التي استوحى منها أحداث روايته "قشتمر". 


يتتابع الحضور على المتحف وتزدحم ممراته، الجميع يتحدث عن نجيب محفوظ، الجميع يبحث عن خيط صغير يلج به إلى عالم نجيب محفوظ الذي ملئته الواقعية حتى أن الكثير منهم أصبح في أشد الحاجة إلى لمس تلك الشخصيات. وحين دقت الساعة تمام الخامسة عصرا، وصلت الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة إلى مقر المتحف رفقة "أم كلثوم" نجلة الأديب الراحل نجيب محفوظ، لتتسلم درع وزارة الثقافة وشهادة تقدير، وتشهد لحظة افتتاح متحف والدها، الحدث الذي طال انتظاره لسنوات، وخلال تسلمها الجائزة تقدمت بالشكر للوزارة والدكتور حلمي النمنم وزير الثقافة السابق وكل من ساهم ولو بلفتة بسيطة في إحياء ذكرى هذا الرجل في أحب المناطق إلى قلبه، فهناك في حي الجمالية ولد نجيب محفوظ وهناك دخل الكتاب والمدرسة وتهيأ للالتحاق يالجامعة، ولأجل هذه المنطقة ألف أحد أهم أعماله الأديبة على الإطلاق وهي ثلاثية "بين القصرين- السكرية- قصر الشوق".
الجريدة الرسمية