رئيس التحرير
عصام كامل

المليونيات


المبارزة السياسية باستعراض المليونيات، أنستنا كل ما قيل منذ عقود عن تحديد النسل وتخفيف الأعباء الديموغرافية على الاقتصاد والتأمين الصحى والمساكن، والملايين الذين لاذوا بالقبور والعشوائيات والمجازفة بالهجرة غير الشرعية فى قوارب الموت، أصبحت لهم وظائف أخرى لا علاقة لها بالبطالة وأرقامها المفزعة، وحزبها الأكثر عدداً، لكنه بلا أمانة عامة وبلا مقار لأن مكانه الأرصفة.

وما قرعت له الطبول كى يخفف من الفقر والمرض والبطالة، ضاعفها، وتلك واحدة من أكثر الأحجيات عُسراً على الحل فى عصرنا.
ومباراة المليونيات لا تخضع لأى معيار وما من حاسوب دقيق وذكى يحصيها، لكن رقم المليون تحول إلى رقم سحرى تقاسمه الساسة وأصحاب البرامج التليفزيونية التى تُسيل لعاب ملايين الجياع ومنهم من لا يستطيع إحصاء أكثر من خمسين دولاراً أو ديناراً أو جنيهاً، لأنه لم يظفر بمثل هذا الرقم، أما نتائج المباراة فهى دائماً التعادل أو ادعاء الفوز من كل الأطراف لأن الحَكَم غائب وكذلك تقاليد اللعبة، فاللعب كله الآن بلا شبكات ولا ندرى ما إذا كان الهدّاف يسجل أهدافه فى مرماه أو فى مرمى الخصم؟
وثمة أوقات يتراجع فيها العلم بكل حقوله وفروعه لأنه لا يجدى ولا يجد مكاناً فى واقع عشوائى لا فى المبانى والكتل البشرية فقط، بل فى أساليب العيش وأنماط التفكير والممارسات. وقد يكون البعض محقين إذا قالوا إن من لا يشرب من نهر الجنون لا يفيده علمه وعقله، بل سيشقى بهما وهذا ما تنبأ به شاعرنا المتنبى عندما قال إن الجاهل يرفل فى نعيم جهله مثلما يتعذب ويشقى العالم فى جحيم علمه.
بعد عقود من مواعظ تحديد النسل والسجال حول "مالتوس" ونظريته والمنهج الصينى فى وضع حد للتكاثر، عدنا إلى الزهو على بعضنا بعضاً بالمليونيات ونسينا ما كنا نفخر به عن رجل يعد بألف رجل، أو ما قاله الشاعر:
ما أكثر الإخوانَ حين تعدّهم.. لكنّهم فى النائبات قليلُ.
حتى رموز السلام والشعور بالأمان كالمعابد والجامعات ودور العلم تغيرت وظائفها لتصبح مجالات حيوية للتحريض والتهييج الذى يهزم العقل لمصلحة الغرائز.
ما كان مرشحاً لأن يصبح خطوة إلى الأمام أو فى مسيرات الألف الميل أصبح خطوات إلى الوراء وفى مسيرة المليون ميل. فالحركة ليست دائماً بركة، ورحم الله من قال إن خامل الذكر خير من ذميمه، ولا ندرى كم هى مساحة الهامش الباقى لنقد هذا الواقع وتشخيص مواقع التجلّط وتخثّر الدم فيه، فنحن نُبقى على المفاهيم ونغير المترادفات، لهذا انتقلنا بعد عناء من التخوين إلى التكفير، ومن احتكار الحقيقة إلى تحريمها على الآخرين .
نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية