رئيس التحرير
عصام كامل

عند مقام جدى إبراهيم


بعد اشتياق طال، وأشواق جارت بنيرانها على وجد القلب المتعب وسط أحداث لا إنسانية.. عانقت عجلات الطائرة ممر المطار بمهارة يحسد عليها قائد حكيم، ومن الطائرة إلى الباصات تسابقنا وكأننا على موعد واحد.. كان الطابور طويلا مملا زاد من قسوته شوق الرحلة ووصولنا إلى مطار جدة بعد منتصف الليل بثلاث ساعات.. الإجراءات كانت أكثر مللا، فالقائمون على الأمر لابد أن يتأكدوا من كل ورقة تلقى أمامهم.. لا ضرر، فالدنيا قد آلت إلى كل ما هو يفرض على الدول أن تحمى رعاياها.


بعد ثلاث ساعات انطلقنا من داخل المطار إلى خارجه لنتسابق مرة أخرى في الحصول على سيارات الانتقال إلى المدينة المقدسة.. إلى البيت الذي طهره إبراهيم وإسماعيل "وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" صدق الله العظيم.. لم تكن السيارة الأجرة تسير بنفس حرارة الشوق الدفين فينا.. كنا نسابقها فنسبقها بخيال يتمدد ويتمدد فيصل إلى بيت الله قبل وصول جثاميننا.

كنا ثلاثة لا يعرف أحدنا الآخر نردد بين الحين والآخر لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.. بعد ساعة من الجرى واللهث والسباق وصلنا حول البيت.. ألقينا بحقائبنا إلى حيث لا ندرى.. دخلنا إلى البيت العتيق.. البيت الذي جعله الله مثابة للناس "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى " صدق الله العظيم.. آية للناس.. نعم فلا أمن مثل أمن هنا ولا هدوء مثل هنا ولا "مثابة" إلا هنا.

مئات الآلاف قد لاذوا بالدعاء.. ساروا والكعبة على يسارهم تداعب القلوب.. لا تعرف إن كان الطائفون ملائكة أم بشرا.. من كل أصقاع الدنيا.. مئات الآلاف من المشتاقين جاءوا إلى البيت الذي رفع قواعده سيدنا إبراهيم "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ " صدق الله العظيم.. مئات الآلاف من البشر ساروا أسرى أفئدة جاءت إلى هنا لتهوى إليهم "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" صدق الله العظيم.

ورغم ضجيج مئات البلدوزرات والروافع التي لا تهدأ.. تسابق الزمن لتنفيذ أكبر عملية تطوير وتوسعة للحرم الشريف فإن بهاء الكعبة يأخذك إلى حيث لا تدرى.. تسير بلا إرادة منك.. تسيرك إرادة أخرى.. تسكنك طاقة روحية تدير كل أمورك.. لا ترى زحاما رغم الزحام.. لا تتضجر ممن يتخبطون فيك أو تتخبط فيهم فالأجساد سرت فيها أضواء الكعبة وتوحدت معها صارت روحا بحجم الجسد.

مشقة الطواف لا تضاهيها متعة.. أشواط سبعة تتمني أن تطول بك غير أنها سرعان ما تنتهي لتذهب إلى الصفا والمروة ولتبدأ "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ"، وقبل أن تستمتع بعناء التجربة الروحية ينتهي بك السعى إلى حيث أمرك الله.. تلقى بجسدك المغلف بعناء المتعة اللا متناهية.. تتأمل.. تتفكر.. تتدبر.. تدرك أن الله منّ عليك بما هو أعظم من كنوز الدنيا وما فيها فقد هويت من خلف فؤادك حيث طلب جدك إبراهيم عليه السلام.

عرب وعجم.. أفارقة وأسيويون.. أوربيون وأمريكيون.. أستراليون وكنديون.. أبناء آدم هنا كلهم دون شقاق أو نزاع أو خلاف.. جمعهم البيت.. بيت الله وورثة إبراهيم وإسماعيل لا يزالون على عهدهم يطهرون البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود.. كل شعوب الدنيا هنا متحدون بلا أمم متحدة، آمنون بلا مجلس أمن.. مسالمون بلا مجلس سلم، راكعون له وحده ليس لقوة ولا لهيمنة، و..، وإنما لعشق وحب ووجد وشوق ولسان حالهم يردد "اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك".. ركعتان عند مقام جدى إبراهيم -عليه السلام- كانتا مسك الختام.
آخر ما رددته قبل أن أغادر إلى حبيبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة أن قلت: هل الإخوان يطوفون بنفس البيت؟!!!
الجريدة الرسمية