رئيس التحرير
عصام كامل

..وصليت في الجنة ركعتين


كنت واحدا ضمن كتلة بشرية جاءت من كل حدب وصوب، نتحرك كقطعة واحدة من اللحم البشري، تهفو قلوبنا صوبه.. تعانق عيوننا مرقده.. نتمتم بدعاء السائلين.. تتدفق الدماء في العروق.. ننتظر لحظة إلقاء السلام.. من باب السلام دخلنا إلى باب البقيع نسير حتى اقتربنا منه "السلام عليك سيدي يا رسول الله" خطوتين.. "السلام عليك يا صِدِّيق".. خطوة "السلام عليك يا سيدنا عمر".


دون أن تتحكم في تحركاتك أو سيرك، ستصبح بعد قليل في طريق الخروج من باب البقيع، لتبحث عن باب آخر تعود منه إلى المسجد النبوي الشريف.. تنظر بإمعان في مرقد رسولنا الكريم، حيث كانت غرفة السيدة عائشة.. يدفن الأنبياء حيث يموتون، وعلى يمين الغرفة روضة من رياض الجنة.. "بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" وقفت في طابور أعظم ما في إرهاقه أن روحا تتدفق في عروقك؛ انتظارا للحظة يفرغ فيها مصل داخل الروضة الشريف لتصبح مكانه.

مضى يومي الأول في انتظار الفرج.. أصلي حيثما كنت وأتقدم شيئا فشيء، كلما أتيحت لي فرصة التقدم.. عن يميني شاب إنجليزي يعيش في لندن، جاء حالما بالصلاة في الروضة الشريفة، وعن يساري فتى من ماليزيا جاء يحمل نفس الرغبة، ومن خلفنا ومن أمامنا شباب وشيوخ من أفريقيا ومن آسيا ومن أستراليا.. من الأمريكتين ومن كندا.. جئنا جميعا لنلقي السلام وننعم بركعتين في بقعة من الجنة.

قليل من التمر المدني تضعه في كيس صغير بين طيات ملابسك.. لن تحتاج إلى غيره طوال اليوم، وأنت تتنقل من صلاة إلى صلاة، ومن دعاء إلى دعاء، هنا تقرأ القرآن في حضرة النبي.. تقرأ القرآن في أرضه.. سور نزلت في المدينة، وها أنت تصلي في المدينة في مسجد النبي.. تمضي بقدميك في نفس الأماكن التي مر بها الرسول.. هنا استقبله أهل المدينة، وهنا ناخت ناقته.. وهنا كانت الناقة مأمورة فتم بناء المسجد.

على مسافة ليست بالبعيدة كنت أصعد جبل أحد.. هنا كان النصرة.. وهنا كان الرماة.. وهنا خالفوا أوامر النبي، وهنا وما أعظم من هنا.. هنا سقط سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب.. وبجواره سيفاه اللذان قاتل بهما وقتل واحدا وثلاثين من أعداء الله.. هنا انطلقت حربة وحشي الحبشي.. تتداعى مشهد الوحشية والتمثيل بجثة سيد الشهداء.. ها هي هند بنت عتبة تبقر بطن حمزة.. تخرج كبده.. تلوكها ثم تلفظ بها.

يصل الخبر إلى أسماع الرسول.. فيذهب إلى جثمانه الطاهر، يرى ما فعلت قريش به يقسم إن نال منهم ليمثلن بسبعين منهم، وسرعان ما يهبط الوحي عليه بقول المولى عز وجل: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" وهنا يعلن الرسول موقفه النبوي المتسامح "والله لأصبرن".. يختار رسولنا الكريم الصبر طريقا.

كنت أقف على مسافة قليلة من مرقد سيد الشهداء، وتلك الصور تطفو فوق سطح ذاكرتي.. تاريخ يرتسم في موقع الأحداث التاريخية العظيمة.. لحظات إنسانية تدفعك للعودة كلما أتاحت الظروف وشاء المولى عز وجل.. ننطلق من هذا المشهد المؤثر إلى مسجد البقيع الذي كان يصلي فيه الرسول كل سبت.. الصلاة فيه بأجر عمرة.. كل ما حولك ينقلك إلى الزمن السحيق زمن ولادة الدين الحنيف.. زمن الصحابة الأجلاء وآل البيت الأطهار.

تعود إلى الفندق لا تستطيع أن تنام وبجوارك مسجد الحبيب.. سرعان ما تعود إليه مشتاقا.. وفي كل مرة تدخل وكأنك تدخل للمرة الأولى.. تتداعى إلى أسماعك أصوات المصلين والمرتلين.. ترتجف الحناجر طالبة النجاة.. تهفو النفوس إلى نبي الله.. تشتاق إلى سلام تلقيه فتمضي في ذلك الطابور الدائم، ثم تعود لتروي ظمأك من ماء زمزم المحمول إلى مسجد النبي الكريم من مكة إلى المدينة.

وجوه المدينيين تذكرك كيف أنصفوا الرسول المضطهد بين قومه في مكة.. أناس تحبهم للوهلة الأولى.. تشعر أنهم أهلك.. ابتسامة تعلو وجوههم، وكأنها جزء لا يتجزأ من صفاتهم.. من ملامحهم.. تمضي بك الأيام سريعة متلاحقة ويأتي موعد الرحيل.. لحظات كئيبة وكأنك تخلع من ذاتك.. تجهز حقائبك ولسان حالك يردد: "اللهم أعدنا إليها مرات ومرات.. اللهم يسر عودتنا إلى مسجد الرسول ومدينة الرسول.. اللهم آمين.
الجريدة الرسمية