شم النسيم.. عيد الإحياء القديم
كانت عقيدة الشمس ( رع ) تؤسس لمفهوم بدء الخلق الأول عند المصريين القدماء، وباعتبار الملك ابن رع كانت عقيدة الشمس تمثل الديانة الأرستقراطية للقصر الملكى، بينما كانت عقيدة أوزوريس هي الديانة الشعبية التي تستجلب قدرة إحياء الموتى في العالم الآخر ممثلةً في أوزوريس الذي قام من بعد الموت بعد قتله في الأسطورة الشهيرة، ومن المرجح أنه تم إدماج العقيدتين في دين واحد في عهد الملك سنفرو في الأسرة الرابعة.
عَبَّرت عنه فلسفة الشكل الهرمى الكامل التي سادت عقائديًا قرابة الألف سنة بعدها، فكان مبنى الهرم يمثل الرحم المقدس الذي يضم مومياء الملك الميت داخله ليقوم من الموت كعقيدة أوزورية خالصة، ثم ينطلق بعدها إلى السماء ليتحد مع أبيه رع في رحلته النهارية كعقيدة شمسية رعوية، كما تذكر متون الأهرام ( سوف تصعد إلى أبيك رع على السلم الضوئى الذي أدلاه لك)..
وشكلت لحظة شروق الشمس يوم الاعتدال الربيعى مفهوم التجلى العقائدى لقرصها الذهبى المتعامد على قواعد الأبدان الأهرامية، ليمثل حلولًا "طقسيًا أرضيًا" للشمس فيها، التي اتخذت من شكل البيضة التي تضم داخلها كرة المح الذهبى رمزًا أرضيًا لها كما حدثتنا البرديات القديمة في مواضع معتبرة، وينتشر عبق ونسيم حلول رع يومها، ليتفاعل مفهوم الإحياء الأوزورى مع الحلول الرعوى على أرض مصر، ليضمن قيامةً مماثلة من الموت لقيامة الملك في عالم الغيب لكل من آمن بذلك من المصريين.
ومنذ آلاف السنين يحرص المصريون على الخروج في هذا اليوم من كل عام إلى الحدائق والمناطق المفتوحة مبكرًا، ليتلقوا تلك النفحة الإحيائية المقدسة فور شروق الشمس ليشهدوا لحظة حلولها الأرضى لنوال بركتها وتنسم نسيمها، وما زالوا يفعلون كتقليد تاريخىٍ بحتٍ، ويتبارى الأطفال حتى اليوم في مرحٍ وسعادة بتلوين وزخرفة البيض -رمز الشمس- في ذلك اليوم، بينما يمثل جثمان أوزوريس الذي ينتظر الإحياء في الأسطورة تلك السمكة الميتة الراسفة في كفنها المملح كمومياء محنطة، والتي حرص على تناولها القدماء كرمز لجسد أوزوريس الميت، لينالوا بركته، ويقوموا قيامةً موعودة كما قام هو من الموت !.
إن تراث مصر القديمة بكل ما فيه لا يزال يجرى مجرى الدم في عروق المصريين، كما أثَّرَ في كل حضارات العالم وتراثه القديم والجديد.. وفى ذلك تُكْتَب مجلدات !