رئيس التحرير
عصام كامل

قانون العقود الحكومية وتعويضات التحكيم


تواجه مصر حاليا مأزقا شديدا، يتمثل في زيادة عدد دعاوى التحكيم المرفوعة عليها أمام مراكز التحكيم الدولية بالخارج، إذ بلغ عدد قضايا التحكيم المرفوعة على الحكومة المصرية عدد 37 قضية تنظرها مراكز التحكيم في الخارج، يطالب أصحاب تلك الدعاوى الحكم لهم بجملة تعويضات على الحكومة تبلغ نحو 100 مليار جنيه، وذلك عن الأضرار التي لحقت بهم من جراء فسخ العقود التي كانت مبرمة معهم.


وفي محاولة منها لإيجاد حل لمشكلة التعويضات الضخمة التي تواجه مصر بسبب لجوء المستثمرين إلى التحكيم الدولى بطلب الحكم لهم بالتعويض عن فسخ العقود التي أبرمتها الحكومات المصرية السابقة معهم بعد أن صدرت أحكام قضائية عديدة ببطلان هذه العقود، أصدرت الحكومة قانون ينظم التقاضى في المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية التي تبرمها الدولة مع المستثمرين.

والواقع أن فكرة إصدار هذا القانون، يثير مخاوف عديدة، ويصطدم بإشكاليات مختلفة، فمن ناحية يصطدم مشروع القانون بمبدأ أساسى نص عليه الدستور المصري وهو عدم جواز تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، وهو ما قد يوصم مشروع القانون بعدم الدستورية باعتبار أن العقود الإدارية من الأعمال القانونية التي تخضع لرقابة القضاء الإداري، وغل يد القضاء عن النظر في مشروعيتها وصحتها القانونية أمر مخالف للدستور، فضلا عن أن رقابة القضاء الإداري على هذه العقود من خلال دعاوى الإلغاء التي يرفعها ذوو الشأن تكفل الرقابة على صحتها والتحقق من اتفاقها مع الصالح العام، وخلوها من صور الفساد المالي والإداري بأشكالها المختلفة عند إبرامها، وأنه لم يترتب عليها أية أضرار بالمال العام، وهى اعتبارات مهمة، سيهدرها مشروع القانون إذا أوصد باب الطعن على هذه العقود بعد إبرامها أمام القضاء الإداري.

ولكن في المقابل، هناك العديد من المبادئ القانونية التي يجب أن نحترمها، ومن أهمها الحفاظ على استقرار المراكز القانونية، وضمان حقوق المتعاقد حسن النية، وأن العقد شريعة المتعاقدين، وحماية مصالح البلاد الاقتصادية التي تستوجب توفير مناخ جاذب للمستثمرين الأجانب، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا إذا توفر الأمان القانونى للمستثمر، الذي يجب أن يأمن على أمواله حتى يوافق على استثمارها في مصر، والذي لن يرضى بأى حال من الأحوال أن يبرم عقدا مع الحكومة المصرية على شراء شركة بسعر معين ووفق شروط محددة تضمنها العقد، الذي وافقت عليه الحكومة المصرية، ورتب بناء على هذه الشروط أوضاعه وحساباته المالية والتجارية، ثم يفاجأ بحكم قضائى بفسخ هذا العقد وضياع استثماراته.

وفي محاولة من المشرع لتحقيق التوازن بين الاعتبارين السابقين، فقد نص القانون الجديد في مادته الأولى على أنه مع عدم الإخلال بحق التقاضى لأصحاب الحقوق الشخصية أو العينية على الأموال محل التعاقد، يكون الطعن ببطلان العقود التي يكون أحد أطرافها الدولة أو أحد أجهزتها من وزارات ومصالح،وأجهزة لها موازنات خاصة، ووحدات الإدارة المحلية، والهيئات والمؤسسات العامة، والشركات التي تمتلكها الدولة أو تساهم فيها، أو الطعن بإلغاء القرارات أو الإجراءات التي أبرمت هذه العقود استنادًا لها، وكذلك قرارات تخصيص العقارات ؛ من أطراف التعاقد دون غيرهم، وبذلك يكون المشرع قد قصر حق الطعن على هذه العقود أو القرارات المرتبطة بها على أطراف العقد وأصحاب الحقوق الشخصية أو العينية على الأموال محل التعاقد، فهؤلاء فقط وفقا لهذا القانون هم أصحاب المصلحة وذوى الصفة الذين يحق لهم الطعن على العقد امام القضاء.

و هو ما يغلق باب الطعن امام سواهم ممن قد يرى عوار في العقد، وذلك ما لم يكن قد صدر حكم بات بإدانة طرفى العقد أو أحدهما في جريمة من جرائم المال العام المنصوص عليها في البابين الثالث والرابع من الكتاب الثانى من قانون العقوبات، وكان العقد قد تم إبرامه بناء على تلك الجريمة، اذ يجوز حينئذ رفع الدعوى بأبطال العقد من غير أطراف العقد أو من أصحاب الحقوق الشخصية أو العينية، وهو استثناء مقبول وسائغ ومنطقى، اذ أن العقد المبرم نتيجة ارتكاب جريمة جنائية، يكون عقدا مبنيا على الغش والاحتيال والغدر بالمال العام من أطرافه، والغش يفسد كل عمل، وينحدر به إلى درك الانعدام القانونى، بما يوجب أبطال هذا العقد وما ترتب عليه من اثار.

ونص القانون في مادته الثانية على أنه مع عدم الإخلال بالأحكام القضائية الباتة، تقضى المحكمة من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعاوى أو الطعون المتعلقة بالمنازعات المشار اليها والمقامة أمامها، بغير الطريق الذي حددته المادة الأولى من هذا القانون بما في ذلك الدعاوى والطعون المقامة قبل تاريخ العمل بهذا القانون ،أي تلك المتدوالة بالفعل والتي لم يفصل فيها بعد.


و السؤال الذي يدق الرءوس بعنف، هل هذا القانون يمثل حلا للاشكالية التي تواجه مصر، ويحقق الوقاية من تعويضات التحكيم التي تواجه الحكومة المصرية، الواقع أن هذا القانون سيحد من الدعاوى القضائية ببطلان هذه العقود، ولكن المشكلة ليست في رفع الدعاوى القضائية حتى يكون الحل تقليل هذه الدعاوى والحد منها، المشكلة في العيوب التي تشوب ابرام هذه العقود، وتضر بمصالح وأموال مصر.

وحل هذه الاشكالية في رأيى، يكمن في ضرورة التحقق من سلامة العقود عند ابرامها، ولذلك ادعو إلى إصدار قانون يلزم الحكومة بعرض كافة العقود التي تبرمها مع مستثمرين أجانب على هيئة قضايا الدولة لصياغتها، ثم عرضها على مجلس الدولة لمراجعتها وجوبيا مراجعة مسبقة قبل إبرامها، فإذا رأى مجلس الدولة سلامة العقد وخلوه من كافة العيوب، يجوز للدولة إبرامه، ولا يجوز المنازعة فيه قضائيا بعد ذلك، وبذلك يكون عرض العقود على القضاء متحققا، ليباشر رقابته عليها بما يتفق وحكم الدستور، لكن رقابة سابقة وليست لاحقة حتى يتوفر الاستقرار القانونى للمستثمرين، ونتجنب بذلك مصيدة التحكيم الدولى ومخاطره المتمثلة في الحكم على مصر بمليارات الجنيهات كتعويض عن أخطاء وقعت في العقود التي أبرمتها الحكومة مع المستثمرين، فالوقاية من التحكيم الدولى خير من مواجهته.
الجريدة الرسمية