رئيس التحرير
عصام كامل

تجاوز أزمة الإعلام المصرى!


يمر الإعلام المصرى –سواء في ذلك المقروء أو المرئى- بأزمة لا شك فيها.. وأبرز علامات الأزمة هو تصاعد الضجيج الإعلامي بتأثير الحرص على "الفرقعات" الإعلامية ونشر الأخبار المثيرة، أو ارتفاع وتيرة الخلافات والمشادات والملاسنات الكلامية في البرامج التليفزيونية، التي تحولت في غالبيتها العظمى إلى "مكلمة" كبرى يقوم فيها بالأدوار الرئيسية مقدمو برامج "التوك شو"، والذين ارتدى عديد منهم ثوب "الفيلسوف" الذي ينعم على الشاشة بحكمته المزعومة، أو يقوم بدور "الزعيم" المحرض الذي يدعو إلى الثورة الدائمة، أو "المفتى" الذي يدلى بدلوه في كل القضايا سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية، مع أن الغالبية العظمى من هؤلاء يمكن أن ينطبق عليهم وصف "أنصاف المتعلمين" الذين لم يحصلوا على زاد فكرى يسمح لهم بالتحليل الموضوعى للمشكلات التي يتعرضون لها.


ومن هنا، أجمع الخبراء على أن الإعلام المصرى بكل أنواعه يحتاج إلى وقفة نقدية جادة لتحديد أسباب أزمته العميقة وعلاماتها البارزة.. ولعل أبرز هذه العلامات افتقاد المهنية الضرورية للصحفى أو مقدم البرنامج التليفزيونى، والحرص على الإثارة وادعاء "الانفراد" في الصحافة.. وهى في الواقع "انفرادات" وهمية، أو "التفرد" في البرامج التليفزيونية من خلال استضافة ضيوف لا يستحقون أصلًا أن يظهروا على الشاشة، أو استدعاء تعليقات سطحية من بعض محترفى الكلام الفارغ الذين يدورون به على الفضائيات المختلفة ليدلوا بتحليلاتهم العبقرية باعتبارهم خبراء سياسيين أو استراتيجيين!

أكتب ذلك بمناسبة الأحداث الدامية التي دارت في "أسوان" بين الدابودية والهلالية، وقد طالعت عديدًا من التحليلات السطحية لما حدث، والتي تشهد على عجز من كتبوها عن فهم البنية الثقافية والاجتماعية، سواء في المجتمع النوبى أو في المجتمع الصعيدى بوجه عام.

وقد لفت نظرى بشدة في عدد الأهرام الصادر يوم (الأربعاء 9 أبريل) وفى صفحتين متقابلتين تحقيق صحفي رصين عن الأحداث أشرف عليه الأستاذ "عبد العظيم الباسل"، يقدم عرضًا دقيقًا للأحداث منذ وقوعها وأبعادها المختلفة، مما يساعد القارئ على أن يلم بمختلف جوانب الحدث.. ومن ناحية أخرى مقالة تحليلية ممتازة للدكتور "مأمون منذى"- أستاذ العلوم السياسية المعروف بعنوان "دول" نوبة ولا دول "قبائل".

وتقدم هذه المقالة الرائعة – بناء على فهم أنثروبولوجى عميق للبيئة الثقافية في النوبة والصعيد - تحليلًا بالغ العمق للأحداث وأصولها وتطوراتها، ويتجاوز ذلك باقتراح استراتيجية ثقافية متكاملة لمواجهة هذه الظواهر الصراعية، والتي يمكن لها –في التحليل الأخير- التهديد الجسيم للأمن القومى المصرى.

هذا التحقيق الصحفى "الأهرامى" يمكن أن يكون نموذجًا يحتذى به في التغطية الصحفية المسئولة، كما أن هذه المقالة الممتازة "لمأمون منذى" يمكن اعتبارها نموذجًا للتحليل العلمى للظواهر، مما يساعد القارئ على الفهم العميق من ناحية، ويعطى الفرصة في نفس الوقت لصانع القرار في أن يبنى قراره بناء على معطيات العلوم الاجتماعية.

ولو نظرنا نظرة مقارنة للإعلام الغربى لاكتشفنا أن التخصص الدقيق أحد علاماته البارزة، والدليل على ذلك أنه لا يسمح لكل من هب ودّب أن ينشر تحليلات سياسية لمشكلات لا يعرف أصولها ولا تطوراتها، كما أنه يستحيل في التليفزيون أن يظهر متحدث لكى "يفتى" في مشكلات ثقافية لا يدرى عنها شيئًا، أو يصوغ تفسيرات سطحية غير متعمقة لما يتعرض له.

ومن ناحية أخرى، فالمهنية شرط سياسي لمن يقوم بأى دور في الإعلام.. ونعنى بذلك مراعاة ضرورة التثبت من الأخبار قبل نشرها، والقدرة على الوصول إلى مصادر الأخبار الحقيقية.. ومن ناحية ثالثة لا يمكن الاعتماد على الشائعات أو نشر التحليلات السطحية لأفراد من الهواة.

في المجتمعات الغربية لا يدخل عالم الإعلام المقروء أو المرئى إلا الدارسون لفنون الصحافة والتليفزيون، ليس ذلك فقط ولكن يتم الاختيار الدقيق للذين يتقدمون للعمل في الصحف أو الإذاعة أو التليفزيون. وبعض المؤسسات الإعلامية توفر لشباب الإعلامين برامج تدريبية راقية ترفع مستواهم المهنى.

أما عندنا، فيكفى أن نشاهد كيف يطرح عديد من شباب الصحفيين علينا الأسئلة من خلال مكالمات تليفونية متعجلة، ونكتشف أن السائل أو السائلة لم يتعلم بديهيات طرح الأسئلة الصحيحة!
الجريدة الرسمية