رئيس التحرير
عصام كامل

حياة القصر وأسباب النصر!

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

بين قصر وقصر أحدهما ينوء بما يحمله من أبهة وترف وظلم وجور وكبرياء وغطرسة والآخر أصبح مثلا أعلى ينشده ويتمناه كل مظلوم أو محكوم عبر الزمان بما يمثله من زهد وتقشف وشظف في العيش وعدل وبساطة وتواضع قد تكون هي أول مواجهة من نوعها في التاريخ؛ إنها مواجهة بين قصر وقصر وما يحمله كل منهما من قيم ومُثل تصل إلى حد التناقض؛ ذلك التناقض الذي أدى إلى حرب لا محالة أن ينهي فيها أحدهما على الآخر.

القصة التي يشكك البعض في حدوثها رغم ورودها في فتوح الشام للواقدي ورغم ورود ما يعزز معناها في " ربيع الأبرار " للزمخشري، وفي " التذكرة الحمدونية " لابن حمدون، وفي " نهاية الأرب في فنون الأدب "للنويري تروي أن (رسول كسرى) قد قدم إلى المدينة يريد مقابلة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
فأخذ يبحث عن قصر الخلافة وهو في شوق إلى رؤية ذلك الرجل الذي اهتزت خوفا منه عروش كسرى وقيصر...

ولكنه لم يجد في المدينه قصرا ولا حراسا فسأل الناس:
أين أمير المؤمنين عمر؟ فقالوا لاندري ولكنه لعله ذاك النائم تحت الشجرة
فلم يصدق الرجل ماسمع فذهب اليه فإذا به عمر رضي الله عنه وقد افترش الأرض والتحف السماء وعليه بردته القديمة يغط في نوم عميق على الأرض إحدى يديه وضعها تحت رأسه كوسادة له والأخرى على عينه لتحميه من حرارة الشمس، وقصره ما هو إلا بيت طيني عليه شعر ماعز وضعه عمر لكي يقي أهله من قيظ الصيف وأمطار الشتاء، فوقف رسول كسرى مشدوها مستغربا وقال القولة المشهورة:

(( حَكَمت... فعَدلت... فأمِنت... فنِمت... ياعمر))
وقد روى ابن سعد القصة مسندة في الطبقات الكبرى فقال: أخبرنا عارم بن الفضل قال: (أخبرنا حمّاد بن سلمة قال: أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك أن الهرمزان رأى عمر بن الخطاب مضطجعًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا واللهِ الملك الهنيء).

وقد صور شاعر النيل حافظ إبراهيم هذا الموقف بهذه الأبيات الشعرية الرائعة:
وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا = بَيْنَ الرَّعِيَّـةِ عُطْـلًا وَهْـوَ رَاعِيْهَا
وَعَـهْدُهُ بِمُلُـوكِ الفُرْسِ أَنَّ لَهَـا = سُوْرًا مِنْ الجُنْدِ وَالحُرَّاسِ يَحْمِيْـهَا
رَآهُ مُسْتَغْـرِقـًا فِي نَوْمِهِ فَـرَأَى =فِيْـهِ الجَلاَلَةَ فِـي أَسْمَى مَعَانِيْـهَا
فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلًا= بِبُرْدَةٍ كَـادَ طُـوْلِ العَهْدِ يُبْلِيْهَا
فَهَـانَ فِي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْبِـرُهُ = مِـنَ الأَكَاسِرَ وَالدُّنْيَـا بِأيْدِيْـهَا
وَقَـالَ قَـوْلَةَ حَقٍّ أَصْبَحَتْ مَثَلًا = وَأَصْبَحَ الجِيْلُ بَعْدَ الجِيْلِ يَرْوِيْـهَا
أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ العَـدْلَ بَيْنَهُمُو = فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيْرِ العَيْـنِ هَانِيْـهَا

وسيرة ابن الخطاب ملأى بما يؤكد مضمون هذه القصة، فلقد حضر بعض أصحاب عمر طعامه فدعاه إليه فقال له في صراحة: إن طعامك جشب (أي غليظ) وإني أوثر أن أصيب من طعام لين صنع لي. فقال له عمر ما معناه: إنه ليعرف طيبات الطعام ولو أراد لأصاب منها ما يشاء ولكنه سمع الله يقول لقوم نعموا بحياتهم الدنيا: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)

فقد كان عمر يشدد على نفسه مخافة أن يستمتع بالحياة فينقص ذلك من حسناته عند الله.

ولم يكن إشفاق عمر من أن يذهب طيباته في حياته الدنيا هو وحده الذي كان يفرض عليه الشدة على نفسه وأهله، وإنما كان هناك شئ آخر لم ينسه عمر قط وإنما كان يستحضره دائما وهو ما قدر للنبي من العيش فقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم شديدة وكان ضيقها ربما جهد النبي واضطره إلى الجوع فكان يمر الشهر والشهران وأكثر دون أن توقد النار على طعام في بيت الرسول وغذاؤه في ذلك وأهل بيته على التمر والماء ولم يشبع ثلاثة أيام تباعا حتى قُبض وقالت عائشة رضي الله عنها: لقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به من الجوع وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقوتك، فيقول: "يا عائشة.. مالي والدنيا.. إخواني من أولى العزم من الرسل صبروا على ما أشد من هذا"، وقالت زوجه أم سلمة تصف ما وجدته في بيته ليلة عرسها: "فإذا جرة فيها شئ من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت الكعب فأدمته فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة عرسه!".

ودخل عمر بن الخطاب - ذات مرة - على النبي الكريم، وقد اضطجع على حصير أثّر في جنبه الشريف، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ:
(( دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٍ فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَالِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ ؟ قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا ؟ قُلْتُ: بَلَى )) رواه ابن ماجه.

ولم تكن حياة أبي بكر في أثناء خلافته – أيضا – رقيقة ولا لينة، وإنما كانت إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين وكان عمر يستحضر هذا دائما ويكره أشد الكرة أن يأكل أو يلبس خيرا مما أتيح للنبي وأبي بكر، وكان حين كثر المال وحين كان يرى ما يحمل إليه من الفيء والخراج يذكر حياة النبي وخليفته فيبكي ويبكي من حوله من أصحاب النبي.

وقد رفق به بعض أصحابه لفرط شدته على نفسه وأهله، فاجتمع نفر من الصحابة منهم عثمان وعلي وطلحة والزبير فقالوا: لو قلنا لعمر في زيادة نزيده إياها في رزقه. فقال عثمان: هلموا فلنستبرىء ما عنده من وراء وراء، فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال واستكتموها أن لا تخبر بهم عمر. فلقيت عمر في ذلك، فغضب وقال: من هؤلاء لأسوءهم؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم. فقال: لو علمت من هم لسودت وجوههم، أنت بينى وبينهم..أناشدك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتك من الملبس قالت: ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع، فقال: فأى طعام ناله عندك أرفع قالت: خبزنا خبز شعير يصب عليها وهى حارة أسفل عكة لنا فجعلنا حيسة دسماء حلوة نأكل منها ونطعم منها استطابة، قال: فأى مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ قالت: كساء لنا ثخين كنا نرفعه في الصيف فنجعله تحتنا، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا نصفه، قال: يا حفصة فأبلغيهم عنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالتوجيه وإنى قدرت فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالتوجيه، وإنما مثلى ومثل صاحبى كثلاثة نفر سلكوا طريقا، فمضى الأول وقد تزود زادا فبلغ، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتبعهما الثالث فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما أبدا.

..وهكذا تتواتر الروايات الصحيحة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين لتؤكد مضمون القصة الأولى وتؤكد إمكانية وقوعها وتؤكد معها هذه المواجهة التي دارت رحاها في ذلك العصر بين قصر وقصر أحدهما ينوء بما يحمله من أبهة وترف وظلم وجور وكبرياء وغطرسة و....، والآخر أصبح مثلا أعلى ينشده ويتمناه كل مظلوم أو محكوم عبر الزمان بما يمثله من زهد وتقشف وشظف في العيش وعدل وبساطة وتواضع و........

..وهكذا تقودنا هذه القصة والمواجهة إلى قصة أخرى ومواجهة أخرى أخذت حظها – أيضا – من تمحيص ومراجعة كتاب التواريخ والسير؛ تلك المواجهة التي وقعت في ميدان المعركة لما أراد أهل (إيلياء / القدس) الاستسلام للمسلمين بعد حصارهم لها، اشترطوا عليهم أنهم لن يسلموا مفاتيح القدس إلا إلى أعلى قيادة في المسلمين.

وتذكر هذه الرواية، أن عمر جاء هو وغلامه على دابة وحده، وكانا يتناوبان الركوب على الدابة، حتى وصلا إلى أرض الشام، واقتربا من الجيش الإسلامي، ورآهم الجيش، وبعض أهل القدس، فاعترضتهم مخاضة (أي وحل)، وكان دور عمر في المشي، ودور الغلام في الركوب، فأَصَرَّ عمر على أن يمشي، ويترك الغلام راكبًا دابته، ودخل هذه المخاضة بقدميه، خالعًا نعله.

حتى إذا استقر الركب عند الباب، نزل إليه رئيس الأساقفة البطريرك " صفرنيوس"، وبيده مفاتيح القدس، وبعد أن سلّم عليه، قال له: إن صفات من يتسلم مفاتيح إيلياء (بيت المقدس)، وهي مكتوبة في كتابنا - يقصد شروح الإنجيل-: أن يأتي ماشيًا وخادمه راكب، خالعا نعليه ورجلاه ممرغتان في الوحل.

ولا تخفى العلاقة بين القصتين بما تحملهما من مواجهتين؛ فلقد وقر في قلوب المسلمين وعقولهم أن أسلوب حياة القصر هو أهم أسباب النصر، ولهذا كلما تضيق بهم السبل يتمنون للحاكم قصرا كقصر الرسول وخلفائه الأربعة ومن سار على نهجهم من بعدهم كالخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز حتى أصبح بالنسبة لكثير من المسلمين بمثابة (قصر الأحلام) الذي لا يجد طريقه إلى أرض الواقع!

> المصادر: 
عبقرية محمد: العقاد
الشيخان: طه حسين
كنز العمال: ابن عساكر
موقع ملتقى أهل الحديث
موقع قصة الإسلام
الجريدة الرسمية