بناء البشر أولًا !
لا أعلم بلدًا يحتاج إلى تفعيل برامج التنمية البشرية أكثر من حاجة مصر، بعد حقبٍ طويلة تعرضت فيها لسياسات التجريف والتدمير، أصابت لُحمةَ الشخصية الوطنية المصرية، وأصل الثقافة المجتمعية لشعبها، اشتركت فيها منظومة التعليم ومخرجاتها الفاشلة، ومافيها الميديا المفسدة، وتهافت الخطاب السياسي، وتَسَيُّدَ العشوائية المجتمعية؛ مما أضاع حلم المشروع الوطنى الذي يبرز المعدن المصرى النقى الأصيل ويؤكده، لتصبح عملية التنمية الاقتصادية غير ذات جدوى في ذلك المناخ المجتمعى غير المواتى، فالتنمية الاقتصادية تتطلب بشرًا متميزين، لهم قدرات إنسانية تتوافق مع مستوى أهداف تلك العملية التكنوقراطية.
قضية أخرى في غاية الأهمية ساهمت بشدة في ضرب الشخصية المجتمعية، وتدنى المفهوم الحضارى - ألا وهى انهيار الفراغ العمرانى في مصر بكافة مستوياته، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة اليومية للإنسان، ويتحكم في وظائفه الحياتية، ويضمن تلبية احتياجاته المختلفة، ويؤثر في العلاقات المجتمعية، والذوق العام، ونمط تعامل الفرد مع غيره ومع مجتمعه، ويدفع به إلى الرقى أو الانحطاط الحضارى، وهذا ما يميز المجتمعات الغربية التي أنتجت نسق الفراغات المعمارية المتميزة على كافة مستوياتها، التي تُلْزِمُ المستخدم بمستوى راقٍ من التعامل، ويرتقى بذوقه وبكرامته الإنسانية، غير الذي يتعامل مع مناطق عشوائية تفرض عليه غلظة الخُلُق، وتدنى المعاملة، وتدفعه إلى ثقافة الزحام وصراع الحاجة.
إن حجم الغفلة التي مررنا بها طوال عقود من الزمان، خلال البحث الدائم عن تجارب التنمية الاقتصادية للآخرين، وإهمال حالة البشر - أفرز واقعًا مرئيًّا غير مجحود يتصف بتدنى النوع الإنسانى على مستوى الشارع المصرى، وقد ارتبط هذا الواقع الثقافي البشرى المتردي - بلا شك - بانتشار جماعات التشدد الدينى التي تريد العودة بالمجتمع إلى عصور خلت مستغلةً غياب مجتمعٍ حديث يقوم على أسسٍ متحضرة راسخة من التنوع والاختلاف لمواطنين متميزين، ويتصف بالتسامح والمعرفة البشرية الراقية.
ابنوا البشر قبل بناء الحجر، فإن بناء الرجال أصعب وأهم من بناء المصانع.