رئيس التحرير
عصام كامل

تنام العدالة.. ولكنها لا تموت


فى 15 أبريل 1920 قُتل صراف الرواتب وحارسه خارج مصنع الأحذية الذى يعملان فيه بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وفر الجناة بعد الحادث،
وبعد أسابيع تم القبض على اثنين مهاجرين إيطاليين بتهمة حيازة أسلحة نارية، ووجهت إليهما تهمة قتل صراف وحارس مصنع الأحذية. أحد هذين المهاجرين المتهمين كان يعمل صانع أحذية ويدعى «ساكو» بينما المتهم الثانى كان بائع سمك متجولا ويدعى «فانزيتى». وظل اسما «ساكو» و«فانزيتي» لعقود طويلة وصمة عار فى جبين العدالة الأمريكية، فقد تمت محاكمة المتهمين فى مايو 1921، وتميزت المحاكمة منذ بدايتها بالعداء والتحيز ضدهما كونهما مهاجرين، وتم الحكم عليهما بالإعـدام بالكرسى الكهربائى، وقبل تنفيذ حكم الإعدام اعترف «سلستينو ماديروس» الذى كان يُحاكم بتهمة القتل فى جرائم أخرى، بأنه هو الذى قتل الصراف وحارسه، لكن القضاء الأمريكى لم يأخذ اعتراف ماديروس على محمل الجد، ورفض حاكم الولاية إعادة المحاكمة، فقامت الاحتجاجات والتظاهرات ونظمت إضرابات فى بعض المدن الأمريكية، ولكن كل هذه الاحتجاجات لم تجد فى ان تتراجع المحكمة عن حكمها وتم إقرار الحكم نهائيا وهنا وقف فانزيتى وتحدث بخطبة طويلة فى قاعة المحكمة قال فيها إنه حزين بأنه يعاقب على أمور لا يجب أن يعاقب عليها فكونه إيطاليا ليس ذنبا وإنه لو حدث أن ولد ثانية فإنه يتمنى أن يكون إيطاليا حتى ولو قابل حكم الإعدام مرة أخرى.


وكتب فانزيتى قبل إعدامه «لم نكن لنثير فى حياتنا نحن الفقيرين مثل كل هذا التعاطف مع العدالة وصحوة الضمير والتفهم، إن موتنا انتصار لهذه القيم، وإنهما يقبلان الموت كشهيدين بعد أن حركا ضمير العالم» وفى أغسطس 1927 سيق الرجلان ـ برغم إصرارهما على أنهما بريئان ـ إلى الغرفة الكهربائية حيث تم إعدامهما. وألهم موت الرجلين الكتّاب والشعراء، فكتبت حولهما القصائد والروايات والمسرحيات، وشكك المؤرخون فى صحة الحكم الذى اتخذ ضدهما، وفى عام 1977 وبعد خمسين عاما من إعدامهما اعترف حاكم ولاية ماساتشوستس بالظلم الذى تعرض له «ساكو»  و«فانزيتى»، وأعلن فى تصريح رسمى براءتهما.

تذكرت هذه الحادثة التاريخية فى أعقاب الحكم الأخير فى قضية ماسبيرو، تلك المذبحة التى رأينا بعيوننا على شاشات التليفزيون وعلى «اليوتيوب» حينما عبرت مدرعة على شباب وتحولت أجسادهم إلى مطب صناعى بشرى. رأينا بعيوننا مدرعات تسير بسرعة كبيرة وسط المتظاهرين وتغير اتجاهها فى ثوان للاتجاه المضاد أملا فى دهس أكبر عدد من المتظاهرين. سمعنا شهادة خطيبة الشهيد مايكل مسعد وهى تشرح كيف تم الاعتداء عليه بالضرب المبرح من مجموعة من الجنود بعد دهسه حتى فارق الحياة. رأينا جنديا يفتخر بقتل أحد المتظاهرين ويقول «خد طلقة فى صدره» ليرد بعض المارة «انت راجل»، وشاهدنا التغطية التليفزيونية العادلة لإعلاميين شرفاء مثل بلال فضل وعلاء الأسوانى ومحمد جوهر ويسرى فودة والتى أظهرت هستيريا القتل الذى تعرض له المتظاهرون على يد المجندين، ومقابلهم شاهدنا أيضا إعلاما حكوميا مضللا يدّعى وجود قتلى بالجيش ويناشد الشعب الدفاع عن قواته المسلحة، ورأينا جثث شهداء فى عمر الزهور، وقبل كل هذا قرأنا تقرير طبيب شرعى يقول إن هناك 14 شهيدا ماتوا دهسا وتسعة شهداء بالرصاص وجميعهم من المتظاهرين الأقباط، ونفاجأ بعد ما يقرب من عام ونصف العام بأن تخرج التحقيقات بحكم قمعى غريب وهو السجن المشدد على 2 أقباط !!!!

وبرغم الحكم الصادم فالحقيقة أن العدل لا يحتاج حكما قضائيا وها النائب العام السابق أكد الاضطهاد الحكومى الممنهج ضد الأقباط، والذى حاولت أنظمة الحكم فى مصر نفيه دائما، حين قال فى مؤتمر صحفى بعد إقالته «إن جميع قضايا المسيحيين بدءا من أحداث كنيسة القديسين مرورا بكنيسة أطفيح وأحداث ماسبيرو لم يقدم فيها متهم واحد إلى النيابة العامة للتحقيق معه» وها الإعلامية دعاء سلطان تقول إنها قابلت العسكرى الذى خرج على التليفزيون المصرى ليقول «مسيحيين ولاد كلب سرقونى بعد ما كنا بنأكلهم» ليعترف لها ويقول «هما اللى قالوا لى أقول كده والمسيحيين ماسرقونيش»، وها علم الشاب الجميل «مينا دانيال» يرفرف بين ثوار مصر فى الوقت الذى يتوارى قاتلوه خوفا بعد تقاعدهم برغم قلاداتهم ونياشينهم،
وها قصة الشهيد «مايكل مسعد» تجوب العالم على يد خطيبته التى نشرت كتابا عن المذبحة وشهدائها بعنوان «سندريلا ماسبيرو».

الأيام كفيلة جدا أن تعيد العدل والحق للمظلومين لشهداء ماسبيرو وباقى شهداء الثورة المصرية حتى وإن مر نصف قرن بعد رحيله كما حدث مع «ساكو» و«فانزيتى»، فربما تنام العدالة ولكنها لا تموت.

الجريدة الرسمية