رئيس التحرير
عصام كامل

«سائحات في العشق الإلهي..من ثقل الرذيلة لـ«نعيم التصوف».. مريم المجدلية عاهرة نجتها الخطيئة..المسيح رفض إدانتها فبللت قدميه بدمعها..رابعة قضت سنوات في العهر.. ووجدت راحتها في الصلاة

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

"إنني أؤمن بأن خطيئة المرأة تعادل خطيئة الرجل، وأنه ليس هناك خطيئة مؤنثة لا تغتفر، وخطيئة مذكرة تغتفر وأن علينا أن نُعيد النظر في مفاهيمنا الأخلاقية بأكملها وعلى رأسها مفهوم الخطيئة".. هكذا رأت الأديبة غادة السمان فكرة الخطيئة مقارنة بشعوب كاملة رأت أن الخطيئة "امرأة" وديانات غير سماوية ربطت بينها وبين الشيطان ونسبت لها الخطيئة في مجتمعاتنا الذكورية، الأمر الذي جعل من الرجل قديسًا لا يد له في ارتكاب هذه الفعلة.


التاريخ شهد حالات عديدة لسيدات عاهرات تحولن من العشق الجسدي وحياة الملذات إلى العشق الإلهي ونعيم الزهد والتصوف، ففي المسيحية كانت "مريم المجدلية" رمزًا للعفة بعد رحلة طويلة بين العهر والفسوق، وفى الإسلام عرفت "رابعة العدوية" بأنها زاهدة تركت الدنيا وعشق الجسد لتصبح في الأخير شهيدة العشق الإلهي كما يذكرها التاريخ.

عن مريم المجدلية تحدث الكتاب المقدس -إنجيل يوحنا- الإصحاح الثامن: "أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون، ثم حضر أيضًا إلى الهيكل في الصبح، وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم، وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنى، ولما أقاموها في الوسط، قالوا له: يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم، فماذا تقول أنت ؟
قالوا هذا ليجربوه، لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه، وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض، ولما استمروا يسألونه، اعتدل وقال لهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر، ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض، وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم، خرجوا واحدا فواحدا، وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط، فاعتدل يسوع وقال لها: يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟ فقالت لا أحد يا سيد، فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك.. اذهبي ولا تخطئي أيضا".

تلك كانت بداية قصة "مريم المجدلية" والتي يُنظَر إليها كنموذج مذهل للإنسان التائب في المسيحية، فبعد أن كانت المرأة منبوذة في إسرائيل لأنها عاهرة وزانية، أصبحت من أقرب تلاميذ السيد المسيح إلى قلبه طبقا لما يروى في الأناجيل المختلفة بل وأهم تلميذاته من النساء وقيل إنها هي نفسها المرأة التي قال عنها القديس لوقا إنها "امرأة خاطئة من المدينة"، والتي سكبت الطيب على قدمي الرب يسوع المسيح وبللت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها في بيت سمعان الأبرص، وأن المسيح غفر لها خطاياها وأخرج منها سبعة شياطين، وغمرها بحبه الإلهي وضمها ضمن تلميذاته ورسله.

لم تختلف كثيرا قصة "رابعة العدوية" المسلمة عما عاشته "مريم المجدلية" المسيحية، فالأولى ولدت في أحد أكواخ البصرة بالعراق لأب فقير صالح وكانت كنيتها "أم الخير"، توفي والدها وهى طفلة صغيرة ثم لحقت به أمها، فعاشت هي وأخواتها الثلاث حياة صعبة ولم يترك لهم والدهم سوى قارب صغير ينقل الناس بدراهم معدودة، فخرجت للعمل هي وأخواتها.

وحدث أن ضربت البصرة مجاعة فخرجت هي وأخواتها بحثًا عن الطعام ولكن تقطعت بهم السبل وتفرقا فوجدها أحد اللصوص فخطفها وباعها كجارية لتاجر غني من البصرة، فعذبها وأجبرها على مجالسة الرجال والغناء لهم، لاشتهارها بجمال الصوت والشكل وأجبرها على حياة اللهو والمجون فتمرغت في الخمر والشهوة، ثم ما لبثت أن رفضت حياة المجون والصخب، وتمردت على سيدها، مما دفعه إلى سجنها وتعذيبها، لكنها كانت تختلي بنفسها في الليل لتستريح من عناء النهار وعذابه، لم تكن راحتها في النوم أو الطعام بل كانت في الصلاة والمناجاة.

التأثر بأبيها الصالح العابد قد يكون سببًا لعودتها إلى الله، أما السبب الأساسي، فيكمن في طبيعة شخصيتها، والدور الذي اختارته السماء لتؤديه في البصرة في تلك الفترة، وفى التاريخ الإسلامي كله بعد ذلك.

يقول فريد الدين العطار، كاتب سيرتها في "تذكرة الأولياء": "ذات ليلة استيقظ سيدها من نومه فسمع صلاتها ومناجاتها فنظر من خلال الباب، فرأى رابعة ساجدة تصلي وتقول: إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبادك، وخلال دعائها وصلاتها شاهد قنديلًا فوق رأسها يحلق، به سلسلة غير معلق، وله ضياء يملأ البيت كله، فلما أبصر هذا النور العجيب فزع، وظل ساهدًا مفكرًا حتى طلع النهار، هنا دعا رابعة وقال: أي رابعة وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت ونحن جميعًا في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت، فما كان منها إلا أن ودعته وارتحلت".

بعدها جعلت المساجد دارها واحترفت العزف على الناي في حلقات الذكر وساحات المتصوفة، والأناشيد في دنيا التصوف، وعزف الناي عند المتصوفة ليس نكرًا ولا بدعًا، بل هو يبعث الوجد ويحرك القلب ويحلق بسامعه.
الجريدة الرسمية