شعب لا مؤاخذه مابيقولش "لأ"
وكأن "لا" فى مفهوم الشعب المصرى هى كلمة قبيحة، فقد شهدت مصر 23 استفتاء منذ قيام ثورة 23 يوليو من بينهم 4 فى عهد عبد الناصر و10 فى عهد السادات و7 فى عهد المخلوع ، وجميعها لم يقل فيها المصريون سوى " نعم" .
قبل الاستفتاء على دستور الإخوان كنت على يقين بأن الشعب الذى قام بثورة أبهرت العالم، سوف ينجح لأول مرة فى تاريخه أمام امتحان الصناديق وينتفض انتفاضة الأحرار ويقول "لا" حتى لو بنسبة 51 % ، ولكن بعد مؤشرات المرحلة الأولى من الاستفتاء صرت أكثر يقينًا بأن هذا الشعب مولود بعيب خلقى لايمكنه الخلاص منه، العيب الخلقى الذى أتحدث عنه هو أن نسبة الأمية التى تصل إلى 45 % ، تجعل الأرضية مهيأة للخداع بحديث الجنة والنار وطاعة أولى الأمر، وهؤلاء – مع أنصار التيار الدينى - يمثلون القوة أو الفيل أو الكتلة – كما يصفهم الأستاذ هيكل - أمام الصناديق، وأما النخبة الواعية فهى كالنملة أمام الصناديق.
كنت أتخيل أن آلة التزوير فى العهود السابقة والنتائج سابقة التجهيز واللجان الخاوية على عروشها، ونسب التصويت التى لم تتجاوز 5 % بأى حال، والموافقون بنسبة 5 تسعات، كانت تقول كلمتها فى كل أو معظم الاستفتاءات التى كانت تتم قبل 2011 ، وأن ثورة 25 يناير قد منحت هذا الشعب أكسير الحياة والحرية ، ليقول "لا" لدستور وضع غالبية مواده فصيل سياسى واحد دون باقى الفصائل.
لا أتفق مع الذين يقيمون نتائج المرحلة الأولى من منظور الكوب الفارغ ، ومع الذين يقولون إنه انتصار لما أصبح يصطلح على تسميتهم بعد الثورة بالمعارضة وهزيمة للتيار الإسلامى الحاكم " إخوان وسلفيين وجماعات" .. صحيح أن الأرقام تنبئ بأن الأخير فقد كثيرًا من المتعاطفين، لكن العبرة بالنتائج، والنتائج تقول أن المصريين أضاعوا فرصة تاريخية لكى يصوتوا ضد دستور انقسموا حوله شيعًا، لكى يجعلوا من الصندوق مرآة للواقع السياسى.
أعود لأصل المشكلة والمصيبة وهى أن الدستور المستفتى عليه، جاء أخيرًا وليس أولًا، كما هو متعارف عليه بعد كل الثورات، وأصبحت مصر مابعد الثورة أشبه بالعمارة التى قرر المقاول أن يبنيها من أعلى وليس من الأسفل، وصارت مهددة الآن بالانهيار فى أى لحظة.
أصل المشكلة أيضًا أن يتولى هذا البلد رئيس دون مستوى ثورة الشعب، وأن يكون هذا الشعب مجبرًا فى أول انتخابات رئاسية ديمقراطية على الاختيار بين أحد شخصين أحدهما صديق المخلوع وينتمى للنظام البائد، والآخر ينتمى لجماعة دينية أبعد ماتكون فى فكرها عن الإيمان بالدولة المدنية، ومن سوء الحظ ثالثًا أن يدير الفترة الانتقالية نخبة من العسكريين معدومى الخبرة السياسية، أدخلوا مصر فى مرحلة "عك" سياسى لامثيل له، بعد أن وجدوا أنفسهم أمام مسئولية لم يتوقعوا أن يتحملوها، واختبار صعب لم يعدوا أنفسهم له، فأداروها بطريقة الهرم المقلوب، وبكثير من الارتباك وقليل من الخبرة وبأياد مرتعشة.
وللراحل الدكتور عصمت سيف الدولة كتاب اسمه "الاستبداد الديمقراطي" يشرح فيه كيف تحولت الاستفتاءات في مصر وعدد كبير من دول العالم الثالث إلى وسيلة من وسائل الاستبداد التي يستخدمها الحكام الطغاة لتزوير إرادة الشعوب باسم الديمقراطية.
نتائج الجولة الثانية من الاستفتاء سوف تكون أسوأ من الأولى، والغلبة بالطبع للأكثر تنظيمًا وحشدًا، ولذلك أقترح على أى رئيس سيحكم مصر فى قادم الأزمان، ألا يوقف عجلة الإنتاج إذا قدر الله لها أن تدور، وأن يرحمنا من وهم الاستفتاءات، ويوجه ميزانيتها الضخمة ومصاريفها الباهظة ونفقاتها المرتفعة إلى سكان المقابر والعشش الصفيح فى بر مصر، أو الى أى بند آخر فى موازنة الدولة.
وأقول لكل الحالمين بأن يقول الشعب المصرى "لا" ولو مرة واحدة ، أن حل هذه الإشكالية يكمن فى أن إلغاء "لعبة" الانتخابات والصناديق، أو أن يتم تغيير واستبدال الشعب بشعب آخر.