رئيس التحرير
عصام كامل

"القرم" جزيرة الشيطان.. بدأ الصراع عليها بين روسيا وتركيا منذ القرن الـ 18.. عادت لحضن القيصر ليبدأ فصل جديد من النزاع عليها.. و"أوباما" ينصب فخًا لـ "بوتين" ويجره لمستنقع دم جديد بجزيرة "الحرب"

فيتو

نشر موقع "روسيا اليوم" دراسة تاريخية مفصلة حول جزيرة "القرم" التي حفلت بتاريخ من الصراعات وشهدت أرضها انهيار وبناء إمبراطوريات.

وتقع شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا. ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، بينما يحدها من الشرق بحر أزوف. ويربطها بالقارة الأوربية شمالا برزخ بيريكوب البالغ عرضه 8 كيلومترات. وتبعد أقصى نقطة شمالا عن أقصى نقطة جنوبا بمسافة 200 كيلومتر. بينما تبعد أقصى نقطة غربا عن أقصى نقطة شرقا بمسافة 325 كيلومتر. وتحد القرم من جهة البحر روسيا ورومانيا وبلغاريا وتركيا وجورجيا. كانت شبه جزيرة القرم أحد الأماكن المفضلة لاستجمام الأسرة القيصرية والنبلاء الروس.

وأحب القادة السوفيت والمسئولون الكبار الإقامة هنا. وشهدت القرم مرارا أحداثا تاريخية عديدة. وعقدت في شبه الجزيرة قبل ثلاثة أشهر من انتهاء الحرب العالمية الثانية في فبراير عام 1945 قمة الحلفاء في الحرب ضد هتلر التي شارك فيها يوسف ستالين من الجانب السوفيتي وفرانكلين روزفلت من الجانب الأمريكي وونستون تشرشل من الجانب البريطاني، الذين أرسوا النظام العالمي الجديد لفترة ما بعد الحرب. 

وفي أغسطس عام 1991 تم عزل ميخائيل غورباتشوف الرئيس الأول والوحيد للاتحاد السوفيتي أثناء استجمامه في منطقة فوروس في القرم عندما جرت محاولة الانقلاب الفاشلة ضده في موسكو. تاريخ القرم بدأت في القرن الثامن عشر سلسلة من الحروب الروسية - التركية. وسعت روسيا من خلال هذه الحروب إلى الاستيلاء على مناطق مطلة على البحر الأسود باعتبارها ضرورية لتطوير اقتصادها. وطرد الجيش الروسي في عام 1771 الأتراك من شبه جزيرة القرم. إلا أنهم لم يقبلوا بفقدان القرم وحاولوا مرارا استعادة مواقعهم فيها.

واضطرت تركيا في يوم 10 يوليو عام 1774 إلى توقيع معاهدة الصلح التي تم خرقها فور توقيعها عمليا. ووقعت الإمبراطورة كاترين الثانية في يوم 8 إبريل عام 1783 "مرسوما ضم شبه جزيرة القرم وجزر تامان وإقليم كوبان إلى روسيا". وسعت الحكومة القيصرية بشتى الوسائل إلى جذب الرعايا الجدد إلى جانبها آخذا بعين الاعتبار وضع القرم الإستراتيجي العسكري ونفوذ تركيا الكبير بين التتار. ومنذ عام 1783 منح أهالي شبه الجزيرة الأصليين حرية التنقل وحرية الضمير ( العقيدة الدينية). 

كما منح الإقطاعيون التتار الحق بالتمتع بكافة الامتيازات لدى طبقة النبلاء ( الأشراف) الروس. وتم إعفاء التتار من الخدمة العسكرية في الجيش الروسي. 

إلا أنه تم في أوائل القرن التاسع عشر تشكيل أربعة أفواج تتارية التحق بها المتطوعون الذين قاموا بواجبات الحراسة والحفاظ على الأمن في شبه الجزيرة. واحتفظ رجال الدين المسملين التتار بأراضيهم، وتم إعفاؤهم من دفع الضرائب، وأعطيت الحريات الشخصية للفلاحين. غير أن جزءا من السكان التتار غادر القرم وهاجر إلى تركيا بالرغم من التدابير المشار إليها. وصارت القرم في النصف الأول من القرن التاسع عشر تنمو اقتصاديا وثقافيا، وذلك بعد أن تم ضمها إلى الإمبراطورية الروسية في عام 1783. 

ومنذ ذلك الحين أخذت تتطور القوى المنتجة فيها بوتائر عالية، وحدثت تغيرات في المجالين الاقتصادي والثقافي. واتخذت الحكومة الروسية التدابير الرامية إلى توطين القرم، علما بأن عدد سكانها بلغ 82151 نسمة من الذكور حسب إحصائيات عام 1796. 

وسعت الحكومة القيصرية إلى استصلاح شبه الجزيرة بأسرع وقت ممكن، وصارت تمنح قطعا كبيرة من الأرض إلى مالكي الأراضي والموظفين الروس. 

وفي عام 1783 تأسست قلعة سيفاستوبول التي تحولت بمرور الزمن إلى ميناء كبير وقاعدة الأسطول الروسي الرئيسية في البحر الأسود ومدينة تمثل مجد وشجاعة الروس فيما بعد. وكانت الإمبراطورية العثمانية من جهتها تحشد قواها العسكرية وتقوم بلعبة دبلوماسية معقدة مع الدول الأوربية الكبرى التي اتفقت مصالحها ومصالح إسطنبول التي لم ترض بتنامي نفوذ روسيا في البحر الأسود وسيطرتها على القرم. ورفع الأسطول العثماني أشرعته في عام 1787 وتوجه نحو شبه جزيرة القرم. وألحق الأسطول الروسي الصغير في عام 1788 هزيمة ساحقة بالأسطول التركي، الأمر الذي أصبح رمزا لولادة أسطول البحر الأسود الروسي الفتي ووضع بداية للصراع بين الدولتين والذي أسفر عن تخلى تركيا عن شبه جزيرة القرم. 

وفي بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر أصبحت شبه جزير القرم مسرحا للحرب الدامية بين روسيا من جهة وتركيا وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى. وبدأ النزاع من الجدل حول مسألة منع روسيا من حرية الملاحة في البحر الأبيض المتوسط.، ووقعت في عام 1841 في لندن الاتفاقية الدولية التي نصت على إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام جميع الدول الكبرى، الأمر الذي ألحق ضررا بمصالح روسيا الإستراتيجية والتجارية.

غير أن الصراع من أجل فرض النفوذ السياسي والاقتصادي على الشرق الأوسط لم ينته بذلك. وتسببت المواجهة في اندلاع الحرب بين روسيا والإمبراطورية العثمانية ووقفت الدول الأوربية الكبرى فيها إلى جانب تركيا. 

وأعلنت حكومتا بريطانيا وفرنسا الحرب على روسيا، وبهذا خرقتا اتفاقية لندن. ونزلت القوات البريطانية والفرنسية والتركية في عام 1854 في مدينة يفباتوريا الواقعة في شبه جزيرة القرم، ثم توجهت نحو مدينة سيفاستوبول. ووقعت أول معركة بين قوات التحالف البريطاني والفرنسي والتركي من جهة والقوات الروسية من جهة أخرى بالقرب من نهر "ألما" في يوم 8 سبتمبر عام 1854. 

وتمكن الأسطول البريطاني الفرنسي المشترك في أوائل عام 1855 من دخول بحر آزوف مرورا بمضيق كيرتش. وصار الجيش الروسي المحاصر من الجهات الثلاث يواجه المزيد من المصاعب. 

وفي أغسطس عام 1855 استولى العدو على مرتفع "مالاخوخ" الإستراتيجي، مما جعل الدفاع عن سيفاستوبول مستحيلا. وانسحبت القوات الروسية المدافعة عن المدينة إلى مواقع جديدة، وعرقلت تقدم القوات الأجنبية إلى عمق شبه الجزيرة، ثم بدأت حرب الاستنزاف التي أدت في نهاية المطاف إلى لجوء بريطانيا وفرنسا إلى المباحثات مع الحكومة الروسية. وعقدت في باريس عام 1856 اتفاقية السلام، وغادرت القوات الأجنبية شبه جزيرة القرم. القرن العشرين قامت الثورة في روسيا في خريف عام 1917، وتولى البلاشفة السلطة في البلاد.

وتحولت شبه جزيرة القرم إلى أحد ميادين الحرب الأهلية، وتعرضت في الوقت ذاته للعدوان الأجنبي حين خرقت القوات الألمانية شروط معاهدة "بريست"، واحتلت القرم في عام 1918.

وفي نوفمبر عام 1918 نزلت في القرم القوات البريطانية الفرنسية التي بقيت هناك حتى مايو عام 1919، ثم غادرت شبه الجزيرة، وعلى إثر مغادرتها أعلن في القرم عن قيام الجمهورية السوفيتية الاشتراكية. واحتلت شبه الجزيرة قوات الحرس الأبيض بقيادة الجنرال دينيكين ثم الجنرال فرانجل، فاشتعلت الحرب الأهلية في القرم مجددا. وشهدت القرم في فترة ما بعد الحرب الأهلية أوضاعا اقتصادية صعبة، وساد فيها الدمار والخراب، وانخفض الإنتاج الصناعي بالمقارنة مع مستوى ما قبل الحرب بمقدار ثلاثة أضعاف.

كما احتدمت العلاقات بين القوميات، وكانت القوى السياسية المختلفة المناضلة من أجل السلطة في القرم في وقت الحرب الأهلية تستفيد من التفرقة القومية لمصلحتها، ولم تحل مسألة امتلاك الأرض المرتبطة ارتباطا وثيقا بالمسألة القومي. وفي أكتوبر عام 1921 حصلت القرم على وضعها القانوني الجديد، وتحولت إلى جمهورية القرم ذاتية الحكم ضمن جمهورية روسيا السوفيتية الفيدرالية الاشتراكية التي كانت بدورها ضمن اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية.

ومنحت شبه الجزيرة وضع منتجع سائر الاتحاد السوفيتي. وكان المواطنون من عموم الاتحاد السوفيتي يأتون إلى هناك لتلقي العلاج وللاستجمام
.
وسجلت الحرب العالمية الثانية سطورا مأسوية جديدة في تاريخ القرم. وكان الزعماء النازيون ينوون تحويل شبه الجزيرة إلى إحدى المستوطنات الألمانية. وكان يخطط لتهجير السكان وضم شبه جزيرة القرم إلى ألمانيا وتسميتها بـــــــ "هوتلاند" وجعلها موقعا لاستجمام الجنود الألمان ورفدها بألمان إقليم التيرول الجنوبي. وفي 22 يونيو عام 1941 تعرضت مدينة سيفاستوبول والأسطول البحر الأسود السوفيتي للقصف الألماني من الجو. هكذا بدأت الحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى القرم والاتحاد السوفيتي ككل. 

واستمر الصراع المسلح من أجل الاحتفاظ بالقرم خلال فترة تزيد عن شهرين. وبالرغم من مقاومة وصمود الجيش السوفيتي استطاعت القوات الألمانية بحلول شهر نوفمبر احتلال شبه الجزيرة كلها باستثناء مدينة سيفاستوبول. واضطرت القوات السوفيتية إلى مغادرة القرم، ولم تعد إليها إلا في عام 1944. 

وبدأت عملية إعادة إعمار شبه الجزير بعد تحريرها من الألمان مباشرة. وأثبتت لجنة التحقيق في جرائم النازيين بجزيرة القرم هلاك 219625 شخصا وضمنهم من تم إعدامه وتهجيره إلى ألمانيا. ودمرت 147 مدينة وبلدة بما في ذلك مدينتا سيفاستوبول وكيرتش اللتان تم تدميرهما تدميرا تاما. وسجلت السلطة السوفيتية أيضا اسطرها المأسوية في تاريخ القرم حين هجّرت ما يزيد عن 52 ألف الماني و191 ألف تتاري 12 ألف بلغاري و15 ألف يوناني و9 آلاف ارمني و1280 روسيا و1109 غجريا و272 تركيا و257 اوكرانيا و283 شخصا من القوميات الاخرى، وذلك بحجة تعاونهم مع النازيين. 

لقد تأكدت في واقع الأمر بعض الحقائق التي تدل على تعاون بعض الاشخاص من سكان القرم مع النازيين. وكانت قد شكلت في القرم في ديسمبر عام 1941 لجان إسلامية انضم اليها التتار الذين أعلنوا تأييدهم لسلطة الاحتلال الالمانية. وبدأت لجنة القرم الإسلامية المركزية عملها في مدينة سيمفروبول. هذا وكان تتار القرم يحاربون في صفوف الجيش الأحمر ضد الفاشستيين. 

كما شكل تتار القرم سدس قوات الأنصار التي حاربت القوات الالمانية في شبه الجزيرة. وأعلن مجلس السوفيت الاعلى للاتحاد السوفيتي في 14 نوفمبر عام 1989 أن كافة القوانين التي لها علاقة بتهجير الشعوب القهري تعتبر غير شرعية، وقد اعيد الاعتبارالسياسي لتتار القرم والألمان وغيرهم من ابناء الشعوب التي كانت تقطن شبه الجزيرة. ويعود الكثير منهم حاليا إلى وطنهم وبالدرجة الاولى تتارالقرم. 

وتخصص الدولة الاوكرانية لهم قطعا من الارض في منطقة السهوب. غير أن الكثير منهم يستولى قهرا على قطع ارضية في مناطق أخرى من شبه الجزيرة، وقبل كل شيء في المنطقة الساحلية، الأمر الذي يتسسب في حدوث نزاعات بينهم وبين السلطة وفئات أخرى من السكان على حد سواء.
 وفي شهر يونيو عام 1945 تم تحويل جمهورية القرم ذاتية الحكم السوفيتية الاشتراكية إلى مقاطعة القرم ضمن جمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية. واتخذ نيكيتا خروشوف الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في 19 فبراير عام 1954 قرارا باحالة مقاطعة القرم من جمهورية روسيا الفيدرالية السوفيتية الاشتراكية إلى جمهورية اوكرانيا السوفيتية الاشتراكية مبررا ذلك بوحدة الاقتصاد والاراضي والعلاقات الإدارية والثقافية الوثيقة بين المقاطعة واوكرانيا.

لكن لم يلعب هذا الإجراء آنذاك دورا مبدئيا لأن كلتاهما كانتا من كيانات الاتحاد السوفيتي. غير أن هذا الأمر تسبب في مشاكل عديدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، اذ أن القرم لكونها جزءا لا يتجزأ من الدولة الروسية وقاعدة إستراتيجية للاسطول الروسي ثم السوفيتي على مدى السنوات المائتين الأخيرة وقعت ضمن اراضي دولة أخرى على إثر إعلان استقلال اوكرانيا في 30 أغسطس 1991. 

واحتدم الجدل حول مصير سيفاستوبول واسطول البحر الأسود الروسي الذي توجد قاعدته الرئيسية فيها بعد انهيارالاتحاد السوفيتي.
وبموجب الاتفاق بين موسكو وكييف سيبقى الاسطول الروسي في سيفاستوبل حتى عام 2017. وتعول روسيا حاليا على تمديد مفعول الاتفاق. غير أن اوكرانيا التي تسعى إلى الانضمام إلى الناتو لها خطط أخرى. ومن جهة أخرى فان سكان المدينة الذين يميلون إلى روسيا يعارضون انسحاب الاسطول الروسي من سيفاستوبول.

وتم في القرم جمع ما يزيد عن مليون توقيع لأبناء المدينة غير الموافقين على انسحاب الاسطول الروسي. وبموجب احصائيات عام 2001 يقطن القرم 250193 مواطنا مهجرا وبينهم 179400 نسمة من الكبار و70793 نسمة من الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم 14 سنة، بمن فيهم 3001 طفل لم يتجاوز سنهم سنة واحدة. ويبلغ عدد تتار القرم الإجمالي 244121 نسمة، وبينهم 174120 نسمة من الكبار و70001 نسمة من الأطفال بمن فيهم 2968 طفلا لم يتجاوز سنهم سنة واحدة. وازداد عدد تتار القرم خلال الفترة ما بين اعوام 1988 و2001 بمقدار 6.35 مرة. وبلغ نسبة 11.73% من إجمالي سكان شبه جزيرة القرم. التركيب الديموغرافي في القرم ينطق سكان القرم أساسا اللغة الروسية بالرغم من أن اللغة الاوكرانية تعتبر اللغة الرسمية فيها.
الجريدة الرسمية