مصر المضلمة
مصر أصبحت بلد العجائب والمتناقضات، برامج فضائياتها تشهد حالة حراك وحرية وجعجعة وتكسير عظام إلى حد شعورك وأنت تشاهدها وكأنك في أكثر دول العالم تحضرا وتقدما، بينما يعجز مسئولوها وحكوماتها وأجهزتها المحلية عن إنارة شوارعها وطرقاتها المظلمة، حتى تشعر عندما تسير فيها ليلا وكأنك في أكثر دول العالم تخلفا.
وردا على سؤال الشاعرة نور عبد الله "مامشتش ف شوارعها" في أغنية شيرين، ومع الاعتذار للأديب السورى محمد الماغوط على الاقتباس أقول "نعم مشيت منذ أيام في طرقها السريعة وقطعت مئات الكيلو مترات بحثا عن لمبة مضاءة في عمود كهرباء، فلم أر سوى شوارع مظلمة ولم أجد سوى استيائى، وشعرت بشبح الموت يحوم حولى ويطاردنى في كل لحظة، كان ذلك على طريق دمياط المنصورة المحلة طنطا قويسنا، حيث يمكن أن تسير 20 كيلو عليه دون أن ترى عمود إنارة واحد مضيء، فالظلام الحالك السواد يصيب قائد السيارة بالعمى لأن ضوء السيارات في الطريق المعاكس يجعل الرؤية منعدمة، كما أن معظم السائقين أصبحوا يضيئون النور العالى أثناء القيادة وهو محرم ومجرم بالطبع في كل دول العالم إلا مصر أصبح فيها كل شيء مستباحا بعد أن حصل القانون على إجازة، أو أريد له أن يكون في إجازة بفعل فاعل.
على نفس الطريق هالنى ما رأيت من مطبات هي أقرب لمصائد أو أفخاخ، وتشعر أن من شيدها يتعمد الانتقام من قائدى السيارات، وليس إجبارهم على تهدئة السرعة.
بين كل كيلو متر وآخر تقطعه السيارة هناك مطب أو مصيدة، ورغم أن البعض قد يلجأ لتفادى إحتكاك سيارته من الأسفل بالمطب المرتفع بالمرور عليه بهدوء وبزاوية، إلا أن كل ذلك لا يجعلك تفلت من الاحتكاك مهما بلغت مهارتك في القيادة ومهما كانت سيارتك مرتفعة.
والسؤال البديهى: إضاءة كل أعمدة الإنارة على الطرق الرئيسية والفرعية في كل أنحاء مصر لمنع الحوادث التي تحصد أرواح العشرات يوميا ليست معجزة، وأى محافظ أو مسئول في الأجهزة المحلية لا يستحق أن يبقى في منصبه يوما واحدا لأنه يعد شريكا في مصائد الموت المنصوبة ليلا في نطاق محافظته.
في بلد العجائب أيضا يستطيع أي بنى آدم أن يأتى بـ "شوية" أسمنت ويقيم مطبا غير قانونى "يقطم" ويدمر أتخن سيارة فيكى يامصر، دون أن يكون هناك سبب واضح لهذا السلوك الذي أصبح دارجا في كل شوارع وحارات مصر، فلا مدارس ولا أطفال يمكن أن يخشى عليها من السيارات، فقط قامت الفكرة في "دماغه" أن يفعل وفعل، لأنه يدرك أن أحدا لن يجرؤ على إزالة المطب الأسمنتى الذي شيده.
دخلت في حوار مع شخص شيد مطبا أشبه بالفخ أمام منزله حول السبب الذي دفعه إلى ذلك، المدهش أن الرجل قال لى "لأنه ليس أقل من فلان الذي عمل نفس المطب أمام منزله"!.
إن أكثر شيء تحقق في مصر منذ 25 يناير هو إقامة الأهالي وليس الدولة لمئات الآلاف من المطبات غير القانونية في كل شارع، وهو بالطبع "إنجاز عظيم" يدخل بمصر إلى موسوعة جينيس في حجم المطبات حتى أنك تجد خازوقا كل بضعة أمتار.
المطبات اليدوية وأعمدة الإنارة المظلمة أحد أدوات البنية التحتية المهترئة تماما، شوارع وطرق وكبارى وأنفاق مصر صارت كالأنقاض وكأنها خارجة من حرب، شنها وخاضها بكل أسف معدومو الضمير والأخلاق الذين استمرأوا الفوضى واستغلوا انسحاب الدولة من المشهد تماما.
نجح المصريون "القدامى" في بناء الأهرامات بصورة أذهلت العالم، ونجح المصريون "الجدد" - أصحاب أعظم ثورتين طلبا للحرية في بناء أكبر عدد من المطبات "الهاند ميد" في الشوارع والحوارى والأزقة والحارات.. نهنئ أنفسنا على الإنجاز.. فقد ذهبت الحرية وبقيت المطبات عفوا " الخوازيق على الطرقات".