يوميات صحفى مسحول
الذين ذهبوا بعيداً بحماستهم للمطالبة بمحاكمة المواطن حمادة صابر المسحول، ارتكبوا خطيئة لا تغتفر، فالمواطن المسحول تعرض لواحدة من حالات القهر المبثوث على الهواء مباشرة، كلنا رأيناه مسحولاً، مركولاً بالأحذية، مسحوقاً على وجهه كامرأة تغتصب على الهواء مباشرة، مقهوراً تحت الأحذية، منبوذاً تتقاذفه الأيدى الخشنة وبيادات صممت خصيصا لتحمى الأقدام من حثالة المتظاهرين والمحتجين.. كلنا رأيناه، لكننا جميعاً لا نستطيع أن نتصور كيف مرت به هذه اللحظات، وتصورنا وهماً أن لديه قدرة على اتهام ساحقيه، ومن هم ساحقوه؟
إنهم من ركلوه بأحذيتهم، وداسوه بأقدامهم، ومحقوا إرادته بحيوانيتهم.
هل تصورتم عندما أفاق حمادة فى المستشفى على وجوه معذبيه؟ هل تصورتم كيف ارتد إليه رعبه زلزالاً يهز أسرته؟ هل تصورتم كيف رأى نفسه على سرير ومن حوله جمع من وجوه لا تعرف رحمة ولا إنسانية؟ هل تصورتم كيف استعاد ما حدث؟.. لا أظن.
أقول لكم وأنا استعيد يوماً من أيام عام ١٩٩٥م، عندما كنت فى المكانة نفسها التى عاشها حمادة صابر، كنت فى ذلك اليوم أؤدى عملى بجريدتى "الأحرار" بشارع الجمهورية عندما باغتتنى قوة هائلة من ضباط وجنود، وأحيانا مارة شاركوا القوة بإخلاص منقطع النظير.
فى تلك الأيام كنا نخوض معركة ضد التعذيب، وتبنينا قضية الشهيد عبدالحارث مدنى قتيل نقابة المحامين بأيدى زبانية التعذيب، وقد وصل إلى مقر الصحيفة أكثر من ثلاثة آلاف جندى من الأمن المركزى لتنفيذ حكم قضائى بطرد الصحيفة من مقرها، وكان الدور على العبد لله فى شارع الجمهورية وبالتحديد عند تقاطع الشيخ ريحان مع الجمهورية دارت وقائع سحلى لأكثر من ساعة، هم يسحلوننى وأنا أقاوم، نعال ارتدتها نعال، تنهال على رأسى وكلما أفقت كنت أضرب بكل قوة وجه أى ضابط يكون فى مرمى يدى.
ولأننى تعلمت ألا تقهرنى قوة باطشة.. اعتبرتها مباراة يضربوننى فأضربهم، يلكموننى فألكمهم، يسحلوننى على الأرض فأقاوم وأقف باحثاً عن وجه رسمى أنفث فيه غليل القهر، ظللت أقاوم وكاميرات زملائى تطبع صورى وأنا على الأرصفة أتحول إلى قطعة قماش بالية يمسحون بها الأرض، وسرعان ما أتحول إلى عملاق داخل نفسى فاستجمعها وأنهض كى أقاوم، اعترف أننى لم أكن لقمة سائغة مثل حمادة صابر، وأعترف أننى كنت أضرب بقدر الغل الذى يضربوننى به، وأخيرا سقطت بلا حراك.
تم القبض علىّ، وألقيت معصوب العينين ومكتوف الأيدى داخل سيارة، وحولى عدد من قواتهم، مضت سنوات طويلة وهذا المشهد لا يغيب عن ذهنى، أصبح جزءاً من تكوينى، جعل رد فعلى غير مبرر كلما تكرر أمامى مثل هذا المشهد حتى لو كان سينمائيا.
عندما فكوا العصابة عن عينى قال لى أحد الضباط: أمامك حلّين الأول: أن ترحل من هنا إلى بيتك وتتعلم الدرس جيدا، والثانى: أن تتحمل نتيجة رفضك الذهاب إلى بيتك، وتلا على مسامعى أربعة عشر اتهاماً كان أخفها وطأة: قيادة تظاهرة دون ترخيص وأشدها مقاومة السلطات ومحاولة قلب نظام الحكم، وبالطبع اخترت عدم الذهاب إلى بيتى وتحملت أعباء اتهامات باطلة بعد أن أقسمت لهم أن حقى لن يضيع وظللت لسنوات أطارد كل من طالتنى يده إلا جنود الأمن المركزى، حيث اعتبرتهم أكثر المسحولين فى الأرض ألماً.. أخذت حقى بعد سنوات طويلة بفضل زملاء أعزاء جندوا كل طاقاتهم من أجل استعادتى لإنسانيتى التى داسوها أمام المارة.
لهذه الأسباب أدرك جيداً حقيقة اعتراف حمادة صابر بأن الشرطة بريئة من جريمة تعريته، وسحله، وسحقه.. حمادة مواطن بسيط لا يملك قلماً وورقة، حمادة مواطن يعيش على هامش الحياة يجب علينا بدلا من أن نطارده بالبلاغات أن ندفعه دفعاً ليكون رمزاً لصمود الوطن قبل أن يعترف بأنه هو من سحقهم داخل المستشفى بعيدا عن الكاميرات، حمادة استعاد إنسانيته عندما أحس بالوطن يحيط به أعلنها صراحة، وتمرد على خوفه وانتصر لإنسانيته، انتصر لنفسه وهزم الجميع، بعد أن استمد القوة من الجيل الجديد، بعدما انتصرت له ابنته، وتراجع دون أن يدرك الجميع أن تراجعه كان انتصاراً ضد خوفه على أسرته، حمادة ترك وزير الداخلية تحت وطأة السحل يحيا، فضح الوزير وكشف عورات رئيس مفضوح منذ أن جاء إلى السلطة، أسقط آخر أوراق التوت التى حاولت جماعة الأشرار أن تتمسك بها.
أما الوزير الذى لم يخجل وهو يطلق تصريحات من عينة "إننا لم نسحله، ولم نعريه".. هذا الوزير هو المسحول الحقيقى.. نعم هو المسحول والمسحوق.. مسحول تحت وطأة عشق المنصب.. مسحوق بفعل جماعة تدفعه دفعاً لبيع ضميره دون مقابل.. هذا الوزير مقهور تحت أقدام سلطة غاشمة تصدر إليه الأوامر فإن لم ينفذها ستعريه مثل حمادة.
قلبى مع الوزير الذى حقن ضميره بمادة سامة، قاتلة قبل أن ينطق بما نطق به وباع تاريخه، وباع إنسانيته، وقلبى مع حمادة الذى فقد إيمانه بإنسانيته فتسامح مع ساحقيه، وقلبى معى لا يزال ينبض ويرفض كل محاولات القوى الثورية محاكمة حمادة لأنه فقد إنسانيته ليحمى أولاده وزوجته وأسرته البسيطة.