رئيس التحرير
عصام كامل

الرئاسة بين قريتين


المقيم في القاهرة يعتقد أن العالم يبدأ وينتهي من شوارعها المكتظة بالبشر، المزدحمة بالسيارات، معتبرا أن مدينته العجوز هي روح مصر التي يتحتم أن تخضع لها القرى والمدن في المحافظات كافة، من دون أن يحظى الآخرون بنصيبهم من نهر الحياة المتدفق عبر الوادي.


نعم القاهرة "تستقطر وتستقطب روح الوطن وترمز إلى جوهره وكيانه حضاريا وماديا" بتعبير الجغرافي العبقري جمال حمدان، غير أن مصر الأخرى في الريف والبادية، في الدلتا والصعيد، لها أيضا حقوقا تستوجب على من يسكن القصر الأهم في عاصمة المحروسة أن ينظر إليها بعين حانية.

خارج القاهرة حيث قادتني قدماي في أسبوع واحد إلى بقعة صحراوية على مرمى حجر من الإسكندرية، وأخرى ريفية جنوب الجيزة، بدت الدنيا أكثر اتساعا من عالم المعارك التي لا تنتهي في العاصمة، وصراعات النخبة حول الانتخابات الرئاسية تارة، والموقف من جماعات العنف والإرهاب تارة أخرى.

في الرقعة الأولى، حيث ترقد الناصرية، غرب مدينة العامرية، كانت أمطار الشتاء المتوالية قد تركت آثارها على شوارع لم تصل إليها يد التهذيب والإصلاح لأكثر من عقدين، فغرقت في حفر ومطبات لا يحسد سكانها على قدرتهم العجيبة في التكيف مع برك ومستنقعات تختلط فيها مياه المطر بما تجود به مواسير الصرف  الصحي.

في تلك البقعة تتوارى ثرثرة المثقفين على مقاهي القاهرة، ليحل مكانها أنين مكتوم، ورجاء يتمنى أصحابه أن يتذكرهم من يستعد لولوج القصر الرئاسي على صهوة صندوق الانتخابات، بعد أقل من ثلاثة أشهر، ولسان حالهم يقول "ربنا يولي من يصلح".

ومن الصحراء بترابها المغبر، إلى الريف بخضرته الذابلة، لم يكن الحال أفضل كثيرا، ففي دروب قرية تقول إنها كانت يوما ما تتحلى برقعة زراعية شاسعة، أخذت الكتل الأسمنتية تتلوى وتزحف بشراهة على حقول راحت تذوب خجلا وراء عمران عشوائي لا يقيم للطبيعة وزنا، ولا للتنظيم وقارا.

وكما أبناء البادية الذين وجدوا أنفسهم في قلب الحضر اسما، من دون أن تطالهم يد التحضر بمقوماتها، كان سكان قرية العزيزية في البدرشين (حيث كانت منف الفرعونية)، غارقون بدورهم في مشكلات مياه الشرب والصرف الصحي، وغياب طريق واحد يمكن له الصمود أمام غوائل الأيام، ولسان حالهم يقول أيضا "لا يعنينا من يسكن القصر، بقدر حاجتنا لكوب نظيف من الماء".

التركة ثقيلة، وتشكل العزيزية والناصرية، نموذجين لألوف المناطق المشابهة في شمال مصر وجنوبها، في شرقها وغربها، حيث تتجسد بصدق روح مصر الصابرة على إهمال الرأس القاهر للجسد المقهور، فهل تنقلب المعادلة في المستقبل القريب، من دون قاهر ومقهور، وأن ينال المتعبون خارج العاصمة نصيبهم من خطط التنمية الجادة التي نحلم أن تكون ضمن برنامج الرئيس المنتخب؟!

رفعت ثورة 25 يناير شعار "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية "، وجاءت ثورة 30 يونيو لتصحيح مسار حاد عن الهدف المطلوب، قبل أن يرمي بنا في مستنقع العنف والإرهاب، وها نحن نعاود الكرة مرة أخرى، فهل تجد العدالة، بمفهومها الشامل، سبيلا للوصول إلى كل ربوع مصر، فتعود الروح إلى الجسد المعتل فينهض من جديد؟!

ما ينتظر الرئيس القادم من تحديات ربما يصعب اختزالها في مشاكل قريتين، غير أنهما تضعان خطوطا عامة لما نعانيه كمصريين بفعل سنوات الإهمال الطويل.
الجريدة الرسمية