موقعة السحل
لا ليس ما يأخذ بالى أن مصر ما تزال تضحك من بين الدماء والدموع، ولا أن تحضر الفكاهة المصرية فى ذروة الخوف والأسى. لا لا يسلينا أن تصل مصر إلى حال من الغضب والانفلات والسقوط، الرسمى أو المعارض، بحيث يسحل حمادة صابر فى الشارع ويعرى، ولا تجد الداخلية ما تستر به عريه وعريها. فحمادة صابر كان يسحل فى الوقت الذى تصدر فيه محكمة جنائية حكما آخر على حبيب العادلي. أهذه يا سيدي: واحدة بواحدة، موقعة السحل وموقعة الجمل؟
ثمة سمة مرعبة فى هذا الربيع العربى بامتياز وتميز. ليس انهيار الدولة وحدها، بل انهيار المجتمع معها. ربما يكون السحل مألوفاً فى بعض البلدان العربية، لكن ليس فى مصر. وربما يكون العنف الفردى غير غريب على المصريين، لكن هذا العنف الجماعى ظاهرة تعبر عن تصدع هيكلى مفزع.
كان فيليب تقلا، ربما، أبرز وزير خارجية فى لبنان. وفى أحد أيام 1975 كان ذاهباً إلى حضور مجلس الوزراء، فلما خرج من منزله فى «فردان» طالعه مشهد قتلة يسحلون ضحية، فأكمل طريقه إلى المطار، ولم يعد. وقد سألته بعد سنوات عن سبب قراره الذى لم يبلغ به حتى رئيس الجمهورية، فقال إن القتل علامة البدايات، أما السحل فعلامة النهايات.
اشتهرت مصر بأنها «دولة قبل أى شيء، وفى جميع العصور. ولم يحدث قبل الآن أن أعلنت الدولة حالة الطوارئ وقابلها الناس بالخروج إلى الشوارع غير آبهين بأمر الرئيس أو قوانين حظر التجول»، والحرائق المستديمة حول قصر الرئاسة ومحاولة خلع باب القصر، واضطرار الرئيس كل يوم على استخدام الباب الخلفي، كلها مظاهر مفزعة. إن ما يحدث فى بداية عهد محمد مرسى لم يحدث حتى فى نهايات عهود مبارك. وما نراه يوميا فى مدن مصر شاهدناه ساعات عابرة فى الماضى لا تدوم. وما يصل إلينا من ظواهر عنف وتفكك وبلطجة وانفلات وسرقات، هو القليل جداً من كثير جداً ينتشر فى أنحاء البلاد منذ الأيام الأولى للثورة على نظام 23 يوليو (تموز).
لقد فتح فى المحروسة باباً يخشى ألا يغلق قبل أن تخرج منه رياح الخراب. المشهد مريع: الدولة متسربلة وعاجزة، والفوضى تتوالد بإيقاع إجرامي، والمجتمع المصرى الآمن يرتعد مما يراه فى شوارعه لأول مرة: القانون على جمل الهجانة أو سحلاً وتعرية أمام الكاميرا.
نقلاً عن الشرق الأوسط