الترف.. داء القلوب الضعيفة
قد خلق الله سبحانه الإنسان وأحاطه بسياجِ التَّشريفِ والتَّكريم، وألْبَسَهُ حُلَلًا من سُنْدُس زانَتْه فضائلا، ودَلَّه على ما يتمّْم به محاسِنَ التَّشريف بالهداية والاستقامة والرَّشاد، فسَما بروحِه عن النَّقائص، وعَصَمه من الشُّرور التى تُلْقِى بأصحابها فى التَّهْلُكة، وخَلَّصَهُ من التردُّد بين رغباتِه وشهواتِه، وما هو أَدْعَى للتَّباهِى والتَّفاخُر، فأَلْهَمَهُ أسبابَ التَّعايُشِ مع أجزاءِ هذا الكونِ وأسرارِه، فى انْتظامِ الكواكب وظهورِها وأُفولِها، وشُروقِها وغُروبِها، وانْبِساطِ البحاِرِ فى جَزْرِها، وانْدِفاعِ مَدِّها، وسَخَّر لخدمته من الأفلاك، والبحار، والطير، والحيوان، والنبات، والشجر والمدر، وغير ذلك مما ساقه إليه ليحسن استعماله، وليدرك بلُبِّه ورشاده بأنَّه مرتبطٌ بأجزاءِ هذا النّْظامِ الكونى وأقسامِه، ومتَّصِلٌ بالمخلوقاتِ والكائناتِ بصِلاتِ التَّعاوُنِ والتَّكافُل، وتطبيقِ أحكامِ التَّشريعِ الإلهى، الشَّامِلةِ لقِيَمِ المساواةِ بين مختلفِ طبقاتِ المجتمع فى المنشَأ والمصير، كما فى الحقوق والواجبات، وتهذيبِ النَّفسِ البشريَّة الطَّاغِيَة بقُوَّتِها، وإِضْعافِ سُلْطانِها، والتَّقليلِ من ثَرواتِها، ومن الإفراطِ فى الإِقبالِ على مَلذَّاتِها وشَهواتِها، وتحقيقِِ التَّوازُنِ بين احتياجاتهِا ومتطلَّباتِها.
وما نشاهده اليوم من مظاهِرِ التَّرفِ والثَّراء، يثيرُ فى جوانب منها حزنًا لا يُشْبِهُهُ حزن، مما نقابِلُه من تقلُّباتٍ وتغيُّراتٍ تعترى تقاسيمَ الوجهِ الإنسانى، مما يخالِفُ النِّظامَ الكونى فى أجزائِه المترابِطَة المتلاحِمَة، ومما يخالِفُ ما أقَرَّهُ التشريع الإلهى من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الطُّغيانِ فى اكتسابِ الأموالِ والثروات.
وإذا ما انتقلنا بين مناكِبِ الأرضِ وأطرافها المترامية، نرى مظاهر إنسانية يجيشُ بها الخاطِر ويضيقُ الصَّدر، ويَعْقِدُ اللِّسانُ عن البيان، مما نَشْهَدُه ممَّنْ مَلَكَتْهُم الحياة واسْتَعْبدتهم، وممَّنْ أَشْبَعَتْهُم فى المأكل والمشرب حَتّى فقدوا لَذَّةَ الطَّعامِ والشَّراب، وممَّن كَسَتْهُم بأَفْخَمِ اللِّباسِ وأَغْلاه حتَّى مَلُّوا من تَنَعُّمِهِم بمَلْمَس والدِّيباجِ المخملي، فحالَ بينهم وبين التَّمَنِّى المَشْبوبِ بنَيْلِ المطالب، فانْطلقوا فى الدنيا مُسْتَخِفِّين بآمالهِم العِذاب، ساخِرين من أَطْيافِ أحلامِهِم، وأَخْيِِلَةِ غُرورِهِم وجَهْلهِم، يتوسَّمون ما يثيرُ فى خَلَجاتِهِم لَذَّةً كلَذَّاتِ البسطاء فى تَنَعُّمِهِم بأسبابِ العَيْشِ القليل، وسَعادَتِهِم الغامِرَة بممتلكاتِهِم البسيطة، تبعتُ فى أرواحِهِم مظاهر الابْتِهاجِ والفرح .. يَوَدُّون لو قاسَمُوهم سعادَتَهُم بما هو أخَفُّ على أرواحِهِم وأَلْطَفُ بأجسادِهِم، ليَدِبُّوا كما يدْبُّون وقد شَغَلَهم السَّعيُ لتوفيرِ أسبابِ عَيْشِهِم، ويشاركونهم إحساسَهُم ونَشْوَتَهُم فى ملُاطَفَةِ أحلامِهِم وآمالِهِم ..
ولكن كيف لهم أن يُدْرِكوا ما أَدْرَكُوه وهم فى وَهَنِهِم ووَهَمِهِم، مَأْخوذُونَ بتَرَفِهِم، مَسْلوبُون من إرادَتِهِم وحُرِّيَتِهِم، تُلاحِقُهُم الكآبة فى مَلَذَّاتِهِم وشهواتِهِم، فإنَّ لنعيمِ العِزِّ والتَّرفِ طاقةً وحيويَّةٌ فائِضَةٌ تجِدُ مُتَنفَّسَها فى تصريفِها فى مواطن وإن كانت مشبوهَةً أو غيرَ مشروعة، تَزْرِى بالأمة وتَشِينُ بوَجْهَها الإنسانى .. إلا لو أَدْرَكَُوا فيما أَدْرَكُوه بأنَّ لغيرهم حقوقًا فى ممتلكاتِهِم، وتقيَّدوا بضوابطِ النِّظامِ الإسلامى فى تنظيمِ تصرُّفاتِهِم الماليَِّة، ومكاسِبِهِم، ونفقاتِهِم، ومُدَّخَراتِهِم، والْتَزَمُوا بتشريعاتٍ تحافظ على مقاصِدِ المشاركة ووحدة الجماعة والأمة، ومراعاةِ حقِّها الأصيل فى ممتلكاتِ الفردِ وثروتِه، وبالقدرِ الذى حدَّده الإسلام ..