المُرْشد والجنرال
كان الوداع للمجلس العسكرى المصرى بعد انتهاء الفترة الانتقالية التى أدار بها البلاد قابلاً لعدة قراءات، لأن أياماً قليلة فصلت بين وداع احتفائى تخلله مَنْحُ أوسمة للمشير والفريق وبين إحالتهما إلى التقاعد، ومنذ تلك اللحظة بدأت أطروحتان تتبلوران فى مصر بشأن الجيش ودوره وتحديد الفارق بين الوطنى والسياسى فى هذا الدور، أطروحة ترى استبعاد الجيش عن السياسة وحراكها وصراعاتها، لأن مكانه الطبيعى هو على الحدود لحمايتها وفى ثكناته، وهذه الأطروحة بدت لفرط إلحاحها على تحييد الجيش كما لو أنها تعانى فوبيا عسكرة الدولة، وخصوصاً أن هناك من يرون أن مصر حُكمت منذ قرنين على الأقل من العسكر بدءاً من ذلك الطاهى الألبانى الطموح الذى بنى الدولة وأسس الجيش وسعى إلى تحديثه، مروراً بالستة عقود التى أعقبت يوليو وتعاقب فيها على الحكم ثلاثة من الزعماء ذوى المرجعية العسكرية. لهذا كان هناك مناخ مضاد لعسكرة الدولة، مقابل مناخ آخر مضاد لِتَدْيينها أو بمعنى أدق "أخْونَتها".
الأطروحة الثانية ترى فى الجيش الاحتياطى الاستراتيجى لحماية الدولة داخلياً من التفكك، وهناك لحظات فارقة يجب أن يتدخل فيها الجيش للإنقاذ، وبرغم الهدوء النسبى للسجال على هذين الموقفين جاء تصريح وزير الدفاع المصرى الجديد عن التذكير بدور الجيش لإنقاذ الدولة من الصراعات السياسية التى تعصف بها، بمنزلة مناسبة أخرى لعودة السجال، فإلى أى مدىً يمكن التعامل مع تصريح كهذا على أنه مشروع فى عسكرة الدولة؟
لم يكن ما قاله وزير الدفاع مُفصّلاً، بل هو فى النطاق العام مما ضاعف التأويلات والاجتهادات، ومن استجابوا لهذا التصريح وكأنهم كانوا بانتظاره لا يرون فى تدخل الجيش للإنقاذ عسكرةً للدولة بل هو أيضاً فترة انتقالية، لأن الجيش المصرى لُدِغ من تلك التجربة التى أربكت علاقته بالشعب، بحيث لم تتلاش من الأجواء أصداء الهتافات بسقوط حكم العسكر، مثلما تتردد الآن هتافات بسقوط حكم المرشد، فهل باتت مصر بعد عامين من ثورتها التى لم تكتمل بين خيارين لا ثالث لهما هما حكم العسكر أو حكم المرشد؟ أو أن التيارات الأخرى من يساريين وليبراليين ومستقلين بدأت تلتئم فى خيار ثالث بعد تشكيل جبهة الإنقاذ؟
لقد تجاوز المشهد المصرى الخلافات بمعناها التقليدى، وأصبح مشحوناً بنزاعات لم يعد الدم بعيداً منها، واستمرار هذه المتوالية يُشكّل تهديداً صريحاً للدولة، ومن المجازفات بل من الانتحار إتاحة الفرصة لهذه المتوالية كى تبلغ نهاياتها الكارثية.
لقد جرّبت مصر حكم العسكر ولو فى فترة انتقالية وهتفت بسقوطه، مثلما تجرّب الآن حكم المرشد وتهتف بسقوطه أيضاً، فهل يَكْمُنُ الحل والخلاص بعيداً من الاثنين؟
نقلاً عن الخليج الإماراتية