رئيس التحرير
عصام كامل

نضال بادن بادن


يأخذنا الروائي الكبير عبد الرحمن منيف - رحمه الله- في سفره الملحمي "مدن الملح" إلى مدينة بادن بادن الألمانية حيث يجلس سلطان موران المعزول خزعل في قصر مستأجر يجتر الماضي الأليم بعد الإطاحة به من فوق عرش لم يحسن الحفاظ عليه، وتثبيت أركانه.



في اليوم الأول لوصول السلطان إلى الأراضي الألمانية، وقبل أن يعلم أنه بات خارج السلطة، كان سفير موران ينظر إلى مليكه بخوف ورهبة تصل حد الارتباك، خشية سلوك قد لا يعجب ولي النعم، وفي اليوم التالي وبعد أن جاءت الأخبار بعزل خليفة خريبط، يسارع السفير ناصر السحيمان، وهذا اسمه، بالذهاب إلى مقر السفارة في بون لمعرفة ما يدور مع وعد بالعودة على جناح السرعة لعرض ما لديه من جديد المعلومات.

تأكد السفير أن ما حدث في موران حقيقة وليس خيالا، فقد أصبح خزعل خارج المعادلة، فعاد إلى بادن بادن ليتدبر أمر إطلاع السلطان على ما جرى وما كان، بعد أن أخفى مساعدو المعزول في البداية الخبر عن الرجل، حتى يرجع ابن السحيمان من بون بالأمر اليقين.

يتلقى السلطان خبر عزله، أو الضربة الكبرى، بنوع من الهياج، والغضب الذي يليق بمثل تلك اللحظات الفارقة في مصائر البشر، فيما يسعى السفير ومساعدو المعزول إلى التخفيف من وطأة الصدمة القاسية، التي كانت أكبر من أن تتحملها أعصاب رجل جاء إلى بادن بادن لقضاء شهر عسل مع عروس جديد في عمر أولاده.

في الأسبوع الأول كانت الحاشية لا تزال على تماسكها قبل أن يتسرب الشعور بالمصير المجهول إلى نفوس بعض أفرادها، فتدب الخلافات في جنبات فندقين مجاورين لمقر إقامة السلطان المعزول، حيث كان يتوزع مرافقو خزعل.

في الأيام التالية وبينما كان السلطان يمني نفسه بالعودة إلى كرسي عرشه، ويعقد الاجتماع تلو الآخر مع من بقي من مرافقيه جاء السكرتير الأول بسفارة موران من بون إلى بادن بادن حاملا رسالة من السفير أبلغها لمساعدي المعزول تقول: " سعادة السفير يبلغكم تحياته واحترامه، وكان بوده أن يقوم بهذه الزيارة بنفسه، لكن تعليمات موران بهذا الخصوص واضحة، إذ يجب أن يبقى في بون".

وبعد الكلام اللين ينقل السكرتير الأول رسالة تحذر السلطان المعزول من القيام بأي نشاط يمكن أن يمثل للسلطة الجديدة في موران إزعاجا، فيدرك بعدها مساعدو السلطان أن الأمر بات جدا لا هزل فيه، وعليهم أن يتخففوا من أوهام العودة إلى الحكم وهذيان السلطان عن "البيعة" التي حصل عليها من الرعية، وكلمات من نوع "الدول لا تعترف إلا بالشرع والشريعة" !.

في الشهور التالية ينفرط عقد الحاشية أكثر فأكثر فيعود بعضها إلى موران أملا في الالتحاق بركب السلطة الجديدة، ويهاجر آخرون إلى بلاد بعيدة، ويظل السلطان يصارع نوبات هياج ناتجة عن اكتئاب ما بعد فقد الصولجان، يزيد منها موت خيوله العربية الأصيلة بفعل الصقيع الأوربي الذي لم تألفه، وفقدان أي أمل في استرداد ما ضاع من جاه .

هذا ما كان من أمر السلطان خزعل الذي اكتشف بعد فوات الأوان أن النضال من وراء البحار، لا جدوى منه ولا طائل، ورفع الحناجر من بعيد يضر بقضية صاحبها أكثر مما يفيد، فهل وصلت الرسالة ؟!!

الجريدة الرسمية