عام الفتنة
أسدل الليل ستاره بعد انسحاب الضياء، سدت ظلمة الليل البهيم كل نوافذ النور الوضاء، سكن الدخان الأسود بيت اللآلئ، وجاء الهكسوس بصحبة التتار، وصليل الخيل الغربى فى الخلفية يسبح بحق المرشد، ودانات العم سام تعاند شعبا ضد المرشد، وصوت عربى يهلل للصليبيين، وأعرابى يفتح أبواب طيبة أمام المحتلين، وصار البيت بيتين، وأصبح الأشقاء أعداء، كل هذا وأظافر السنة الكبيسة أوتاد تمسك باللحظة الحبيسة، والزمن راحل، وكل شيء ـ إلا وطنى ـ زائل!!
وكأنه كان يرفض الرحيل قبل أن نتذوق طعم العسل، ممزوجا بمر العلقم، وكأنه كان يستخسر فينا دواء وبلسما، فأراد أن يتركنا محملين بأعباء القادم فى رحم الغيب اللعين، تحسس مسدسه قبل أن يرحل، وأطلق علينا من وابل الكوارث والمصائب مايجعلنا لانفرح بالمولود الغائب .. إنه العام الذى انتصرنا فيه على الضلال، فأراد أن يترك فينا بعض الغبن، وبعض المر، وبعض الانكسار!
أخيرا .. خلع عنه عباءة الحياة، وانصرف مخلفا غابة من الضباب تعلو الجباه، انسلت منه الروح، وبينما كان يحتضر رفض بإصرار غريب أن يترك لنا بعض أمل، غادرته حيوية الحياة، وبينما كان ينتفض الانتفاضة الأخيرة أشار إلي وليده بإشارة غامضة، عابثة، غريبة، فليأت العام الجديد وارثا من سلفه الراحل غيبوبة لا تزال تغلف عقول المنضوين تحت لافتة تستمد حياته من موت الوطن .. تستخلص حياته من موت الوطن .. تنشب أظافرها في لحم الوطن.
ورغم كل ما فعله فينا، ورغم كل ما تركه فينا، ورغم كل التمزيق وكل الضيق.. فإننا نتذكر له أن نصفه الأول نضال ضد التضليل، ونصفه الثاني انتصار علي التضليل.. ورغم ما فقدنا من رفاق، وأشقاء، و... ورغم أن الراحلين كانوا شبابا، وكانوا شيوخا، وكانوا نساء، وكانوا رجالا، وكانوا زهورا، تساقطت على مآذن المساجد، وعلي صلبان الكنائس، وكانوا كائنات تحيا، وكانوا أرواحا تهفو للحظة عبور إلى بر الأمان .. رغم كل شيء فلا شيء بلا ثمن!!
عام الفتنة بلا منازع .. فيه استأسد الحاكم الإله، وسادت نظرية الاستبداد الشرعى تحت شعار «تسمع وتطيع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك».. وفيه تم تفريخ الاستبداد، وإحياء الاسترقاق تحت شعار «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .. فيه استباح المخلوق سرقة الآخر، وقتله، ونهبه، وتضليله وفيه ضبط ولي الأمر علي قارعة الطريق يبيع الوطن والمواطنين، ولأنه مخلوق عصى الخالق، فإن مخاليق ربنا ثارت، واستثارت، وهبت، وشبت، وأزاحت الغمة بكل همة.
عام القتل بما لا يخالف شرع الجماعة .. قام فيه رئيس الدولة بالخلاص من عدة ملايين، حتى يروق له الحال، ويفسح له المجال، وفيه غرق قصر الاتحادية بدماء الرعية، فكان القتل بأصول مرعية، ودلائل شرعية، وفيه تعطلت حيل الشيطان، وعلت شرور الإنسان، وحار إبليس أمام مهارة التلبيس، وصار الدين مطية، وأصبح الشرع ضحية لتحقيق أهداف شيطانية.
وبعد هجوم وصد، ولأن الحق وعد، فقد ثار الشعب وجد، وإذا الشعب يوما أراد الحياة فإنه لابد بالغ منتهاه، مهما علا شأن من عاداه، وفي منتصف العام خرج الناس فى زحام، وقالوا حلو الكلام «الشعب يريد تبديد الظلام».. هرب الليل، وعلا صهيل الخيل، وجري النيل بماء رقراق جميل، وتصور الجمهور أننا دخلنا حدائق الزهور، وشربنا الماء الطهور .
جاء السلطان بجحافل الشيطان، وطاف كل مكان، حاملا السيف والنيران، والشعب في مواجهة المستعمر الذي اعتلي الكرسي وتمسمر، وقدم الشعب عديد الشهداء من رجال، ونساء، وأطفال أبرياء.
سقط الطاغوت، وانهار وهرب رجال الجبار، وانتصر الثوار، وظل فى القري أتباع ضمائرهم علي الرصيف تباع، والتاجر القطرى يتاجر بوطن، كان بالأمس لعدوه خناجر يشترى لحما رخيصا وبثمن بخس يملك كل خسيس، ويهوى قبل كل شيء شراء الحناجر.
ذهب عام، وجاء آخر، وجيش الأمة على الأمن ساهر.. وغدا تدق الأجراس، وتؤذن المساجد، ويغنى الشعب على الدفوف والمزاهر «الوطن باق والجحيم مصير كل عاهر» !