«فيتـو» تنشر أهمّ حوارٍ حول أسطورة «كوكب الشرق ».. بشير عيـَّـاد: لو رأتني أم كلثوم يوم القيامة فسوف تعرفني
منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وأنا أعمل في حقل كوكب الشرق السيّدة أم كُلثوم وشعرائها وملحّنيها، وعلى مدى هذه السنوات أحاول أن أصل إلى نهايةٍ معهم، وكلما ظننت أنني أوشكت.... أجدني على الحافة ولم أتجاوز حرف الألف بعد !!
عشرات المقالات في الصحف والمجلات المصرية والعربية، ومائة وعشرون حلقة في برنامج “كلثوميّات“ مع داليا طاهر على القناة السادسة الدلتاوية، وخمسٌ وستون حلقة في برنامج “أنغام مصرية“ مع سميحة أبو زيد ورجاء إبراهيم على الفضائية المصرية، وأكثر من ألف ساعة على جميع الشبكات الإذاعية المصرية (يوجد منها الكثير على شبكة الإنترنت)، وكتابٌ تحت الطبع قوامه سبعة مجلّدات لا يريد أن ينتهي، و....... من أجل كلّ هذا كان من الضروري أن أجري معي هذا الحوار الذي نخصّكم بتفاصيله:
> في البداية.. نودّ أن نعرف متى كانت بدايتك مع أمّ كُلثوم ؟
- ذكرَ لي أبي وأمّي، يرحمُهما الله، أن بدايتي معها كانت في العام 1964م بعد غنائها “ انت عمري “، إذ كنت أردد معها الكوبليه الأخير:
يا أحلى من أحلامي يا أغلى من أيّامي....... ولكنني كنت أقول: يا أغلى من أغلامي ( ما دامت “أحلى“ تعطى “أحلامي“، فإن “ أغلى“ تعطي “ أغلامي“ )، وبصراحة لم أكن أصدّق، لكنني تيقنت من ذلك عندما غنى أطفالي أغانيها السهلة وهم في الثالثة.
> في البداية.. نودّ أن نعرف متى كانت بدايتك مع أمّ كُلثوم ؟
- ذكرَ لي أبي وأمّي، يرحمُهما الله، أن بدايتي معها كانت في العام 1964م بعد غنائها “ انت عمري “، إذ كنت أردد معها الكوبليه الأخير:
يا أحلى من أحلامي يا أغلى من أيّامي....... ولكنني كنت أقول: يا أغلى من أغلامي ( ما دامت “أحلى“ تعطى “أحلامي“، فإن “ أغلى“ تعطي “ أغلامي“ )، وبصراحة لم أكن أصدّق، لكنني تيقنت من ذلك عندما غنى أطفالي أغانيها السهلة وهم في الثالثة.
> ألهذا السبب تحب “أنت عمري“ ؟
- مَن قال بذلك ؟ أحبّ الكوبليه الأخير فقط لأنه يذكّرني بأبي وأمّي، أما الأغنية في جملتها فلم تكن تستحق أن تشتعل حولها كلّ هذه الضجة الإعلامية التي لم تهدأ إلى الآن، وقد كتبت وقلت كثيرا إنها ستتهاوى في لحظة لو قورنت بشواهق القصبجي وزكريا أحمد والسنباطي.
> يبدو أنك تقولُ ذلك لتعصّبك للفصحى ! أليس كذلك ؟
- أنا معك في شقّ من الكلام، وأخالفك في شقّ منه! لست ضد العامية الدارجة أو الزجل من حيث كونهما فنّا، فروائع رامي وبيرم وعبدالفتاح مصطفى وعبد الوهاب محمد ومأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز التي غنتها أم كُلثوم من الزجل، تتفوق على عشرات الدواوين من الفصحى التي كانت تجاورهم وقتها، وتدهس ركام الشعر المنتمي إلى الفصحى في كثير منه الآن، ومن الصعب أن يجرؤ شاعر في قامة شوقي شخصيا على ترجمة روائع مثل “هلّت ليالي القمر“، "سهران لواحدي“، “غلبت اصالح “، “ياللي كان يشجيك أنيني “، “ جددت حبّك ليه “، “الآهات“، “ الأولة في الغرام“، “الهوى غلاب“، “ظلمنا الحب“، “أنساك“،...إلخ، إلى الفصحى، بل إن أغنية “سهران لواحدي“ التي كتبها رامي تتفوق على “ذكريات“ التي كتبها الشاعر نفسه بالفصحى، وتكاد التجربة تكون متطابقة في العملين. العبد لله مع القيمة حيثما تكن، فصحى... عامية... المهم الشعر في المقام الأول.
> قبل أن يسرقنا الوقت.. ما سبب التضارب المروّع حول توثيق سيرة أم كُلثوم ومسيرتها ؟
- هي عدة أسباب، أوّلها أن أحدًا لم يكن يتوقّع أن تتحوّل هذه الطفلة القروية البسيطة المولودة في طماي الزهايرة إلى أسطورة العرب في تاريخ الغناء المدوّن بالصوت والصورة، فجاء ميلادها مثل أي ميلاد لملايين المجهولين الذين يمرون على هذه الدنيا مرور الخيال، ولذلك أحصيتُ لها اثني عشر تاريخ ميلاد، وهذا قمة الفوضى بالطبع، وكل الذي عرفناه عن بداية ارتقائها سلّم المجد جاء من حكايات أبيها عندما انتقلوا إلى القاهرة، والحكايات يرويها كلّ على هواه كما تعلم، وبالرغم من أنها جاءت إلى القاهرة والصحافة مزدهرة ومتفاعلة، إلا أن هناك مناطق كثيرة معتمة نتخبّط فيها بحثا عن وريقة تصلح كوثيقة، ونعاني الأمرّين، ثم إنها كانت قليلة الأحاديث إلى وسائل الإعلام، وتضع حول مسيرتها سياجا حديديا، فلم تترك ما يزيد على خمسة حوارات في مصر والسودان وباريس، أخذها المتسكعون في الفضائيات الآن “وعملوا عليها شوربة وفتّة “ ( لعلك تراني أحدثك بالعامية في بعض الجمل التي لا تفي فيها الفصحى بالمقدار المطلوب في التشبيه والبيان )، يُضاف إلى ذلك.. ذلك الكتاب الذي أصدرته اللجنة الموسيقية العليا بوزارة الثقافة عقب وفاة أم كلثوم، إذ جاء على عجل فخرج ملبّدا بالأخطاء في التواريخ والوقائع والنصوص والأسماء، ثم نقلت عنه الدكتورة رتيبة الحفني وأصدرت كتابها الشهير “ أم كلثوم معجزة الغناء العربي “ ( 1994م )، فنقل عنها الكثيرون وأنا منهم أحيانا باعتبارها ثقة، فتم ترويج الأخطاء على نطاق واسع خصوصا مع طغيان الإنترنت والفضائيات، وزاد الطين بلة أن الأجيال الجديدة من الإعلاميين ( صحافة وإذاعة وتليفزيون ) يعانون الكسل ويكرهون التدقيق والاتقان، ويتعاملون مع الإنترنت باعتباره الملاذ الأول والأخير، وينقلون عنه بأمانة شديدة بكل ما به من أخطاء وكوارث، وأصبح من المستحيل السيطرة على هذه الأخطاء التي تفقس كل يوم آلاف الكتاكيت، لدرجة أن أول القصيدة خطأ في اسم كلثوم إذ تصرّ آلاف الكتابات على أن اسمها فاطمة !
> معنى ذلك أن كتابك المنتظر سيلغي كل هذه الأخطاء ويريحنا إلى الأبد و..؟
- بالطبع لا، وألف لا، وكما تعرف أنني عدت عشرات المرات على الهواء لتصويب ما أخطأت فيه في حلقات سابقة كلما عثرت على وثيقة ورقية أو صوتية تدحض ما قلته سابقا، ولا أخجل ولا أتردد في الاعتراف بالخطأ حتى لو جاءتني المعلومة الصحيحة من طفل في التعليم الأساسي، ولذلك.. أتهرّب في الكتاب من ذكر كل التواريخ، أو تواريخ بعينها إذا كان هناك خلاف حولها، والخط الأساسي في عملي هو جماليات النص الكلثومي، لا فرق عندي بين “ الأطلال “ وشواهق الفصحى، و”غني لي شوي شوي “ وأبسط الأزجال، أما التوثيق الصحيح فلا يقل عن تسعين بالمائة من مُجمل الأعمال، وهذا جيّد، وأعني بالتوثيق التاريخ الصحيح لأول حفل غنت فيه أمّ كُلثوم الأغنية محل البحث.
> على ذكر جماليات النصّ.. مَن يستحق أن يكون أعظم شعراء أم كُلثوم ؟
- سيرد الكثيرون للوهلة الأولى: أحمد رامي، على أساس أنه كتب لها خمسين سنة متصلة، وهذا لم يحدث من قبله ولا من بعده، وكتب لها مائة وسبعا وأربعين أغنية تعادل 46.7 % من مجمل ما غنت (والإحصائية لمركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي )، غير أنني أراهم جميعا متساوين في العظمة... من رامي الذي كتب لها هذا العدد إلى شعراء العمل الواحد أمثال أحمد فتحي وعبد المنعم السباعي وجورج جرداق والهادي آدم، فكلّ منهم ساهمَ بما يستطيع في بناء هذا الهرم الأسطوري الأضخم من كلّ الأهرامات الصخرية الصامتة.
> وكم عددهم يا تُرى...؟ ( أعني شعراءها)...
- كنا في السابق نقول إنهم خمسون شاعرا، لكنني توصّلت إلى أنهم خمسة وخمسون من التاريخيين والمعاصرين، ومن المصريين والعرب والإسلاميين...
> إسلاميون؟ هل ظهروا على أيّامها وكتبوا لها؟
- لا لا، لا أعني التعبير السائد الآن في مطاحن السياسة، أعني المنتمين لدول إسلامية غير عربية، مثل عمر الخيّام الفارسي ( الإيراني )، ومحمد إقبال الباكستاني، أما الشعراء العرب ففي غنى عن الذكر !
> بالمرة... هل كانت أمّ كلثوم مقرّبة من رجال الدين ؟
- كانت في أكرم منزلة عندهم، وكانت مقربة من بيوت رجال الأزهرومشايخه الذين دعموها وساندوها في البداية، وكان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى إسماعيل من أهم جلسائها، وكانا يجلسان في الصف الأول في بعض حفلاتها ويصفقان لها..
> أكيد في المناسبات الدينية أو الوطنية....
- لا وحياتك، بل في حفلات عاطفية صرف كانت تغني فيها أغنيات مثل “ جددت حبّك ليه ؟”، و” أروح لمين ؟ “....
> ولماذا يهاجمها كثيرون من رجال الدين الآن ؟
- لا اعترف بهم رجالا للدين، أيّ شتّام أو سبّاب أو لعّان أو طعّان، ليس من ديننا في شيء، ولا يمثل ديني على الأقل بالنسبة لي.
> لكنني أعلم أنك توقفت عن الكتابة أو الحديث عن أمّ كلثوم وشركائها لمدة ثلاثة أعوام كاملة بسبب....
- اترك هذا السرّ بيني وبينك، دعه لوقته... المهم أنني عدت لأستكمل الكتاب، وأواصل ما بدأته بجميع أجهزة الإعلام بكل أمانة واتقان و....
> أنت تحب الظهور...
- ولو، اضبطني على خطأ أو في موضع شبهة أو ابتذال، وحاسبني.
> كلمتنا عن شعرائها ولم تكلمنا عن ملحنيها !
- ملحنوها أيضا أهرامات، والكتب كلها تقول: إن عددهم أربعة عشر ملحنا، لكنني أختصرهم إلى اثني عشر ملحنا، إذ غنّت من ألحان عبده الحامولي “ أراك عصيّ الدمع “ التي غنّاها قبل ميلادها، كذلك كلّ ما غنته من ألحان أبي العلا محمد كان قد غنّاه قبلها، فهي تتساوى في ذلك مع المسكينات اللاتي ينتهكن معظم أغنياتها سواء في دار الأوبرا أو في الملاهي الليلية، فهل نقول: إن القصبجي أو النجريدي أو السنباطي لحّن لهذه ولتلك عندما ترتكب أيّ منهن جريمة غناء أغنية أو قصيدة من تراث أم كلثوم ؟
المهم، ملحنوها يتقدمهم السنباطي ( من حيث العدد)، وهو جدير بالقمة، ولكن الدور الذي صنعه القصبجي العظيم وبمحاذاته الشيخ زكريا أحمد يضعهما جنبا إلى جنب مع السنباطي، وفي النهاية هم أيضا متساوون من حيث المبدأ، فقد قدم كلّ منهم لها أقصى ما يستطيع.
> أم كلثوم، بنت طماي الزهايرة بالسنبلاوين بالدقهلية، شاركت أهلها مؤخرا في احتفاليتها التي استمرت ثلاثة أيام في قصر ثقافة المنصورة و....
- قل: على وقع صوت قنابل الغاز ورائحتها الخانقة، لقد أديت محاضرتي تحت ضغط الألم والحسرة إذ ذهبت وشاهدت حلقات المتظاهرين حول مبنى المحافظة، وكم تألمت لاستمرار هذا النزيف بلا تحرّك سياسي إيجابي يحقن الدماء ويحرّض الناس على الاتحاد والالتفاف حول هدف واحد مرة أخرى، حتى هذه اللحظة لا أتخيل أنني أديت محاضرتي في أول احتفالية تقيمها قصور الثقافة لأم كلثوم بين أهلها وذويها وعلى الأرض التي أنبتتها والتي تخضّبت بدماء الأبرياء الآن، واختنقت برائحة الغازات السامة المميتة.
> ولماذا لم تعتذر؟
- كيف ؟ اعتذاري يعني الانسحاب والانهزام، سلاحنا هو ما نملك من جمال نواجه به هذا القبح الذي ملأ أيامنا وطرّزها بالدماء الزكيّة البريئة، وأعيد تذكيرك وتذكير ضيّقي الأفق مثلك... أن أمّ كُلثوم أصابتها صدمة هزيمة يونيو بالاكتئاب والانهيار الشديد، لكنها استيقظت فجأة وصرخت: سلاحي هو صوتي، وسوف أسخّره للقتال في الصفوف الأولى على خط النار، وانتفضت لتقيم حفلات دعم المجهود الحربي في مصر وخارجها بدءًا من 23 يوليو 1967م، أي قبل أن تجف دماء الشهداء، وقبل أن تنسحب سحابات الدخان من سماواتنا، وقدمت أمّ كُلثوم المال والمَثَل والقدوة، وستبقى أبقى من آلاف الأحياء الذين يتاجرون بالوطن ويخوضون معاركهم الفاصلة على جبهات الفضائيات المأجورة وفي أحضان الملاهي الليلية، أم كُلثوم حاربت بصوتها / سلاحها الذي تملكه، ونحن نحارب بالجمال الذي نملكه، ومهما يكن بسيطا وقليلا فإننا نعمل بقول القائل: “ جاد الفقيرُ بما عنده “.. وهذا يكفي، وكما طافت أمّ كلثوم محافظات مصر بصوتها، سنطوفها مثلها بالقليل الذي نملكه في مهرجانات أخرى لعبد الحليم والموجي والسنباطي وشوقي وطاهر أبي فاشا ومرسي جميل عزيز.................إلخ...
> هي فعلت ذلك لأنها كانت سببا من أسباب النكسة!!
- أسباب النكسة يعرفها “ الخبراء الإستراتيجيون”، وأرجو ألا تجررني للخطأ في حقّ آخرين....
> واضح أنك متيم بأمّ كُلثوم...
- قل: بنموذج أم كُلثوم، الشخصية المصرية الإيجابية المعطاءة في أرقى رقيها وأسمى سموّها...
> فعلا... ويبدو أن علاقتك بها أصبحت أبدية ولا شفاء منها...
- أنا معك، وقديما سألوا طاهر أبو فاشا عن علاقته برابعة العدوية ( لكثرة ما كتب أو تحدث عنها)، فقال: “أنا على يقين من أن رابعة العدوية لو بُعثت بالقرب منّي يوم القيامة فسوف تعرفني“، وهذا ما أستعيره منه وأقولُه عن مشواري مع أمّ كلثوم !
> أأأ.......
- ارحمني....