رايس الثانية
كانت سوزان رايس قاب قوسين من وزارة الخارجية الأمريكية، لكن الرئيس الذي زكّاها لهذا المنصب تراجع أمام ضغط الجمهوريين في الكونجرس بعد تحميلها وزر الموقف الملتبس من أحداث القنصلية الأمريكية في ليبيا، والمشترك بين رايس الأولى والثانية، اسم ولون وجنس، ففي العقدين الماضيين قادت نساء في مختلف أنحاء العالم الدبلوماسية وشغلْن مناصب كانت لزمن طويل حكراً على الذكور، بدءاً من تاتشر وأولبرايت حتى ميركل، وكونداليزا، لكن ما يفرق بين سوزان وكونداليزا هو الموقف السياسي، إحداهما جمهورية والأخرى ديمقراطية، لكن الحيثيات التي اختبرت كفاءة كل منهما هي شرق أوسطية بامتياز عربي.
كونداليزا لعبت دوراً تفكيكياً بدءاً من عملها في إدارة جورج بوش الأب واستثمرت خبرتها في المجال السوفييتي مرة أخرى في العراق. ثم اقترن اسمها بمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تعددت أسماءه لكنه انتهى بالفعل وميدانيًا إلى ما سمي الفوضى المدمّرة.
أما الدلالة السياسية لترشيح سوزان لهذا المنصب ثم سحب الترشيح أو إرجائه، فهو ذو صلة بتقاليد الديمقراطية الأمريكية، إذ ليس بمقدور رئيس ديمقراطي فاز على خصمه الجمهوري بشكل حاسم، أن يفعل ما يريد ويحتكر السلطة بحيث لا يقيم وزنًا للحزب الآخر، بعكس ما يحدث في عالمنا الثالث الذي تحول بفضل التيارات التقليدية والمحافظة إلى عالم "ثالث عشر"، فمن يُتاح له الفوز يأتي على الكعكة كلها بأصابعه العشر، وتوزع المناصب كالغنائم.
إن أي سفير أو سفيرة في الأمم المتحدة ينطقان باسم البلاد والدول التي يمثلانها، ومساحة الاجتهاد ضيقة، لكن ما يميز أحدهما على الآخر هو حضوره ونبرته وبالتالي منسوب الدقة السياسية في خطابه، وبالنسبة إلى رايس الثانية فقد توقع كثير من المراقبين أن تحظى بترشيح أوباما لها كي تقود الدبلوماسية الأمريكية في هذا الطور الخشن بعد أن عسكرت إدارة الرئيس بوش الابن هذا الحراك الدولي الناعم.
وإذا كان لقب الثاني قد تكرر في أمريكا خلال هذه الآونة بدءاً من بوش الثاني حتى كلينتون الثاني الذي فاز بولايتين وليس انتهاء برايس التي أوشكت أن تكون الثانية، فإن ما يتكرر في أمريكا ليس مجرد تشابه في الأسماء أو اللون، بل هو الاستراتيجية ذاتها التي تحاول الاحتراز من إعادة الأخطاء لكن من دون جدوى، فبدءًا من الحرب الفيتنامية أخذت العزة هذه الإمبراطورية بالإثم، والاستنقاع في آسيا لم يتوقف حتى الآن.
وقد يكون صحيحًا إلى حد ما القول إن الشخصنة ومزاج الأفراد عندما يصبحون قادة في أمريكا لها حدود، وليست مطلقة اليد كما هو الحال في بقاع أخرى من هذا الكوكب، لكن حذف هذا البعد الخاص والسيكولوجي من معادلة الحكم يُكذّبه الواقع.