رئيس التحرير
عصام كامل

"أفق آخر" حَدوثة مصرية


ليس فيلماً للراحل يوسف شاهين، ولا هو من خيال سيناريست أو روائى يستبدل الخيال العلمى بالخيال السياسى، إنه واقع رفض البعض ممّن راهنوا على نوستالجيا السلم الأهلى ومَدَنية مصْرَ تصديقُهُ، لكنه بمرور الوقت أصبح ماثلاً بكامل عناصِرِه، بدمه ولحمه وعظمه، وبكل ما يرشح من الشاشات سواء كان دمعاً يرثى أو دماً مجهول القاتل.

حتى عنقود مدن القنال، وثالوث المقاومة فى العدوان الثلاثى عام 1956 أصبح الآن فى حالة احتدام تنذر بما يتخطى عودة الطوارئ، ولهذا العنقود المصرى المحيط بالقنال أوضاع خاصة سواء من حيث ما تعلق بالملاحة أو التجارة أو حتى أمن قنال السويس، لهذا تمتد النار الآن إلى ما كان بعيداً عنها إلى حد ما، فمباراة رياضية استثنائية بالذخيرة الحية كما حدث فى بورسعيد ليست سبباً كافياً لكل هذا الاحتقان، وعلى الأرجح أن هناك مصريين يستدعون الآن مَثَلَهم الشعبيّ القديم المتجدد وهو "ليست دبانة بل هى قلوب ملآنة" . . لكن من الذى أسهم فى هذا الاحتقان وتصعيده؟ فالطرف الثالث أو نائب الفاعل أو من يرتدون طاقية الإخفاء ليسوا الآن تلك الشماعة التى تكسرت من فرط ما حُملَتْ، فالأسباب سياسية بامتياز، وليست الأيديولوجيا وما تفرزه من صراعات فى منأى عن هذه الحدّوثة المصرية التى لا شأن للراحل شاهين بها، ولا شأن لأبرز نجوم مصر الذين مثّلوا ذلك الفيلم بها أيضاً، فالكاميرات الآن تنقل واقعاً حياً، والدم ليس ماء مصبوغاً أو مطلياً بالماكياج السينمائى، أما الجثث التى تعجّ بها أدراج المشرحة فهى أيضاً ليست حيلة بصريّة، كما أن صراخ الثواكل من الأمهات ليس حيلة سَمْعيّة.
ما يحدث فى مصر الآن حدوثة تقارب الأمثولة، بحيث يخشى رئيس وزراء آسيوى من تمصير بلاده كما قال، محذراً من استبدال الحوار بالتراشق، وإحلال الجِهويّ مكان الوطنى.
لم تكن مصر ذات ثورة أو حتى "هُوجة" بتعبير القرن التاسع عشر مثالاً لكل هذا، بل كانت عكسه تماماً، وخلال عقود عدة سبقت ثوراتها كان عدد ضحايا الاغتيال والعنف يعد على أصابع يد واحدة فقط .
فما الذى تغير؟ هل هى مصر من داخلها أم العالم؟ بحيث سَرَتْ عَدْوى العنف عابرة الهويات والحدود والثقافات لتشمل من كانوا من أكثر الشعوب مسالمة وبعداً عن التطرف والعنف.
لقد كان انهيار الجدار الأمنى بعد تفكيكه سبباً فى الفوضى، ثم أصبحت الفوضى سبباً آخر لتغييب الأمن، وكأن هذه الثنائية يتناوب طرفاها على تغذية الفوضى غير الخلاقة على الإطلاق.
كانت مصر حدّوثة خضراء يرويها السينمائى والسائح والمثقف، فأى مُخْرج الآن يحرك الشخوص؟ وكم ستخسر مصر من أهلها وثقافتها وفنونها وآثارها قبل أن توضع آخر نقطة دم فى آخر سطر؟
نقلاً عن الخليج الإماراتية
الجريدة الرسمية