العولمة المرتدة
يمكن أن نؤرخ لبداية العولمة بنهاية جولة مفاوضات الجات لدورة أورجواى فى 15 ديسمبر 1993، وبداية إنشاء منظمة التجارة العالمية فى الأول من يناير 1995، ويتمثَّل الشق الأساسى فى العولمة فى تحرير التجارة والخدمات وتقسيم العمل الدولى، أما الشق التقنى فيتمثل فى ثورة تكنولوجيا الاتصالات التى غيَّرت تمامًا شكل العالم والعلاقات بين البشر، أما فى ما يتعلق بثورة الاتصالات والتكنولوجيا فإنها ما زالت تدهشنا وتبهرنا كل يوم بالجديد، ويكفى أن شبكة اجتماعية واحدة وهى "الفيس بوك" احتفلت فى سبتمبر الماضى بوصول المشتركين فيها إلى مليار شخص نشط منهم 500 مليون يضعون "الفيس بوك" على تليفوناتهم الجوالة, أى بحسبة بسيطة باستبعاد الأطفال والعجائز والمرضى غير القادرين، فإن هذه الشبكة تربط نصف سكان الكرة الأرضية تقريبًا ببعض، يتبادلون من خلالها جميع المعلومات على مدى أربع وعشرين ساعة، وهذا إضافة إلى شبكة أخرى هى "تويتر" فاق عدد المشتركين فيها بنهاية العام الماضى الـ500 مليون مشترك، يتبادلون 340 مليون تغريدة يوميًّا. نحن إذن أمام ثورة معلوماتية حقيقية ما زالت متأججة ومستمرة.
أما فى ما يتعلق بعولمة التجارة فإنها ما زالت قوية حيث وصل حجم التجارة الدولية عام 2012 إلى 13 تريليون دولار، وهو رقم مهول، ولكن المؤكد أن العولمة التجارية فى ما يتعلق بتحرك السلع والخدمات والأموال والبشر قد حدث لها أكثر من نكسة مما جعل معدلاتها تتراجع.
النكسة الأولى كانت فى 11 سبتمبر 2011، حيث قلصت العملية الإرهابية الضخمة من سياسة ونظرية المجتمع المفتوح، خصوصًا فى أمريكا وأوروبا، وأيضًا حدث تحوّل ضخم فى أوجه الإنفاق الغربى، متجهًا إلى الوجهة الأمنية وتأمين المنشآت والعمل المخابراتى والمعلوماتى فى ما يتعلق بمحاربة الإرهاب، علاوة على الحروب فى أفغانستان والعراق وكثير من بؤر الإرهاب فى الدول الإسلامية.
النكسة الثانية بدأت مع الأزمة المالية الدولية عام 2008 والتى ما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن، وقد أدَّت هذه الأزمة إلى تحول فى المراكز المالية الدولية وتحرك فى مراكز السيولة، وضربت أمريكا وأوروبا بأزمة حادة وركود اقتصادى مخيف مع انهيار مؤسسات مالية عملاقة.
هذه النكسات أدت إلى تباطؤ العولمة التجارية الدولية، ولكن هناك تحولًا خطيرًا ومهمًّا حدث مؤخرًا وهو ما أطلق عليه ديفيد سميك رئيس تحرير مجلة "إنترناشيونال إيكونومى" "الارتداد عن العولمة"، فما المقصود بهذا المصطلح الجديد؟
مع بدايات العولمة حدث تحوّل ضخم فى تقسيم العمل الدولى، ونظرًا إلى رخص العمالة وقتها فى الصين والهند والمكسيك والبرازيل، فقد تم نقل معظم الصناعات الصغيرة والمتوسطة من أمريكا وأوروبا إلى هذه الدول خصوصًا الصين، وترتب على هذا أولًا تفريغ هذه الدول العريقة من كثير من الصناعات، وثانيًا سوء الإنتاج وقصر عمر السلع رغم أنها تحمل نفس أسماء الماركات الأمريكية والأوروبية، ويعود ذلك بالطبع إلى عدم خبرة العمالة فى هذه الدول من ناحية وعدم توفر قيم وأخلاقيات العمل لديها من ناحية أخرى. ويكفى أن نقول إن القطاع الصناعى فى أمريكا وحدها فقد 5.7 مليون فرصة عمل فى الفترة ما بين عام 2000 وعام 2010، وقد أثّر ذلك بالطبع على أوضاع الطبقة الوسطى الأمريكية. الجديد فى الموضوع هو رصد بداية عودة الصناعات إلى موطنها الأصلى مرة أخرى، وهو ما قصد به الارتداد عن العولمة، لماذا حدث ذلك؟ حدث ذلك نتيجة تغييرات فى مسار العولمة التى تسعى باستمرار نحو تخفيض التكلفة، فعلى سبيل المثال كان متوسط أجر الساعة للعامل الصينى عام 2000 يبلغ 52 سنتًا، ولكن مع ارتفاع مستوى المعيشة ومتوسط الدخل فى الصين ارتفع متوسط أجر الساعة إلى أربعة دولارات للعامل عام 2012 وسوف يصل هذا الأجر إلى 6 دولارات عام 2017، مما جعل جاذبية توطين الصناعات فى الصين أقل. نعم هذا الأجر ما زال أقل من متوسط أجر الساعة للعامل فى أمريكا وهو 19 دولارًا فى الساعة، ولكن هناك عوامل أخرى ترجّح رجوع الصناعات إلى موطنها الأصلى وهى ارتفاع إنتاجية العامل فى أمريكا بكثير عن نظيره الصينى ورخص الطاقة فى أمريكا بدرجة كبيرة عن الصين، وسوف تتراجع أسعار الطاقة فى أمريكا سنة بعد سنة حيث تشير توقعات منظمة الطاقة الدولية إلى وصول أمريكا إلى أكبر منتج فى العالم للبترول عام 2017، وسوف تصبح أمريكا من كبار الدول التى ستصدر البترول عام 2030, وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع تكلفة النقل الدولى من الصين واستشراء الفساد فيها، كل هذه العوامل جعلتها تتراجع كمكان جاذب للاستثمارات الصناعية. ولهذا تتوقع بيوت الخبرة عودة 5 ملايين عامل مرة أخرى إلى قطاع الصناعة فى أمريكا بحلول عام 2020، وقد بدأت بالفعل عدد من الشركات الكبرى تعيد فتح مصانعها فى أمريكا وتستثمر فيها فى عام 2012، معنى ذلك أننا أمام موجة جديدة من تقسيم العمل الدولى، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اكتشاف الغاز الصخرى بكميات هائلة فى كندا وأمريكا وأيضًا فى دول مثل قبرص وإسرائيل سوف يغير خريطة الطاقة تمامًا فى نهاية العقد الحالى فإن بعدًا جديدًا فى التجارة الدولية مقبل وهو يتمثل فى تقليص الاعتماد على بترول الشرق الأوسط وعزل هذه المنطقة المضطربة عن العالم الغربى مما سيحول اتجاهات العولمة لتصبح أكثر نشاطًا بين الدول الغربية والدول الصناعية الجديدة فى آسيا.
نقلًا عن جريدة "فيتو"