رئيس التحرير
عصام كامل

مانديلا.. رمز التسامح.. أيقن أن الحرية لا تتجزأ.. واتبع مقاومة اللاعنف متأثرًا بحركة غاندى.. وجمع نفقات حملته الرئاسية من مؤيدى الفصل العنصرى..وعفا عن معذبيه فتقدمت جنوب أفريقيا

جانب من مراسم تأبين
جانب من مراسم تأبين وجنازة مانديلا

يكفي أن تسمع باسمه لتشعر بالتسامح يسري في وجدانك، أوضح أن الحق ليس له لون أو عقيدة، حارب الجميع من أجل القيم الإنسانية، من أجل أن يعيش حرًا في عالم وقتها رفض أن يساوى بين الألوان، آمن هو ومن على شاكلته من الأنقياء، بأن الله لا ينظر إلى اللون بقدر ماينظر إلى الروح، ليعطى الحرية لشعبه بصدر رحب وزج به في السجن لسنوات عدة فزادته نقاء، "الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرًّا أو لا يكون حرًّا"، كانت تلك من أقواله التي تعلم منها الكثير وأدرك العالم من بعدها أن الحرية مثلها مثل المبادئ لا تتجزأ. 

"روليهلاهلا".. هكذا أطلقوا عليه عندما ولد في 18 يوليو 1918 في قرية "مفيتزو" بمقاطعة "أوماتاتا"، وهي تعنى "المشاكس"، كان والده "غادلا هنري" زعيمًا محليًا، عين عام 1915 لكنه لم يستمر كثيرًا حيث تمت الإطاحة به من قبل مجلس الحكام الأبيض، على خلفية اتهامه بالفساد، لم يكن مانديلا طفلًا عاديًا كسائر أقرانه بدأ سنواته الأولى منغمسا في العادات والطقوس والمحرمات، بجانب رعايته للماشية بقريته التي انتقل إليها مع والدته والتي كانت الزوجة الثالثة لوالده.

كان والداه أميين لكن شاء القدر أن تعتنق والدته المسيحية وعلى آثره ألحقته والدته بالمدرسة الميثودية المحلية، وهي طائفة مسيحية بروتستانتية، ومن ثم أخذته والدته إلى المكان العظيم ليكون تحت رعاية الوصي على عرش تيمبو، وهناك تمت معاملته بشكل حسن ما ساعدها في الارتقاء بأفكاره وأحلامه، فزداد تمسكًا بقوميته، والتحق بمعهد "كلاركبري" وهو أكبر معهد وقتها للغة الإنجليزية، وهناك التحم مانديلا مع أقرانه من 
أصحاب البشرتين "البيضاء والسمراء" معًا، والمساواة التي لاقاها هناك شجعته على تغيير طبيعته المنغلقة، وأصبح أكثر تفتحًا وأمضى عامين ومن ثم انتقل بعدهما ليكمل دراسته في "هيلد تاون"، والتي أنشأ بها صداقة من خارج مقاطعته، ولم يتوقف طموحه بعد، حيث بدأ تحضير الليسانس في الفنون وهي درجة في جامعة "فورت هير" جامعة النخبة السوداء في أليس. 

إننا نقتل أنفسنا عندما نُضَيّق خياراتنا في الحياة
تعرف "مانديلا" عن طريق الصدفة، على ناشط في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يدعى "والتر سيسولو" والذي بدوره أمن له عملا ككاتب تحت التمرين بأحد مكاتب المحاماة بشركة كان يديرها يهودي متعاطف مع مطالب حزب "المؤتمر"، وكان مثله مثل "نات بريغمان" شيوعيا يهوديا، وكان أول أصدقاء "مانديلا" من أصحاب البشرة البيضاء.

وتزايد نشاط "مانديلا" في الحزب ووصل إلى الذروة عام 1943 حتى نجح في دفع الجمهور إلى مقاطعة الحافلات بسبب ارتفاع تعريفة الركوب لكن نشاطه السياسي لم يمنعه من استكمال دراسته الجامعية والتحاقه بجامعة في جنوب أفريقيا بالمراسلة وبعد اجتيازه امتحانات الليسانس عاد "مانديلا" مرة أخرى إلى جوهانسبرج، والتي فر منها بسبب الزواج ولكنه عاد ليمارس السياسة كمحام بدلا من كاتب تحت التمرين. 

جامعة " ويتواتر سراند".. بداية القصة
التحق مانديلا بجامعة "ويتوارتر سراند"، وكان حينها الأفريقي الأصل الوحيد، فواجه العنصرية بكل أشكالها، ولم يمنعه ذلك من أن يصادق الليبراليين والشيوعيين واليهود من مختلف أنحاء العالم، في ذلك الوقت أصبح يقضي نيلسون معظم وقته في بيت "سيولو" في "أولاندو"، والتقى مانديلا بالقومي الأفريقي "أنطون لمبدي" وهو معارض بدوره بشدة للجبهة العرقية المتحدة ضد الاستعمار وعلى آثره دعم مانديلا تلك الفكرة التي تبيح للسود الاستقلال التام في كفاحهم من أجل تقرير المصير السياسي، وإيمانًا منه زار مانديلا ضمن وفد رئيس حزب المؤتمر الأفريقي "ألفرد بيتيني"، والتي نتج عنها تأسيس رابطة "الشبيبة" للمؤتمر الوطني الأفريقي عام 1944. 

زواج مانديلا بالناشطة "إيفلين ماس"
التقى مانديلا بشريكة حياته بمنزل "سيولو"، وهي ناشطة بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي وتعمل ممرضة وتدعى "إيفلين ماس"، وسريعا ما اشتعل الحب بينهما حتى توج بزواج عام 1944.

نشبت خلافات بين مانديلا ورئيسه الجديد "بيتر مادا" الذي عقب الرئيس السابق للشبيبة "لمبدي"، وهنا بدأت تنشب الخلافات لوجود خلاف بين قناعتي مانديلا ورئيسه الجديد، لكنه رغم ذلك تم انتخاب مانديلا لعضوية اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي تحت قيادة الرئيس الإقليمي "راموهانى"، ما دعا مانديلا إلى دفعه للاستقالة. 


الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة 
تولى مانديلا، رئاسة الهيئة التنفيذية لحزب المؤتمر عقب "كسوما" عام 1950 وكان وقتها هناك دعوة إلى إضراب عام بالمشاركة مع الشيوعيين والليبراليين ضد نظام الفصل العنصري والذي عارضه بدوره مانديلا لرؤيته أنه وجب أن يكون حزب "المؤتمر" على رأس الداعين.

وصدق مانديلا حيث لم يستفد أحد من هذا إلى الدولة التي أخذت منه حجة لزيادة القمع وإدراج قانون جديد وهو "قانون قمع الشيوعية 1950" وهو ما أثر على فكر مانديلا وجعله يغير نظرته للأمور، وإقراره نهج الجبهة وتأثره بأفكار الشيوعيين وفي عام 1952 بدأ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي استعداده الانضمام إلى حملة تحد جديدة لفصل النظام العنصري بالمشاركة مع المجموعات الهندية والشيوعية.

واتخذ قرارا بتفعيل مقاومة اللاعنف متأثرًا بحركة "مهاتما غاندى"، وهو ما لم يلاق ترحيبا من البعض ولكن مانديلا أصر عليه، وفي نفس العام ألقى مانديلا خطابا قويا أمام حشد من 10 آلاف شخص وألقى القبض عليه واعتقل لفترة وجيزة وأطلق سراحه بعدها، ولكن كسب زيادة في عدد المنتسبين لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. 

التغير الفكري للمناضل السلمي: 
تيقن مانديلا حينها أنه لا سبيل عن المقاومة المسلحة العنيفة عقب مشاركات فاشلة واحتجاجات لم تؤت بثمارها وعلى أثره أشار إلى أحد معاونيه بطلب السلاح من الصين ولكن الحكومة الصينية رفضت لرؤيتها أن الحركة غير مستعدة لخوض حرب عصابات مسلحة ضد نظام الفصل العنصري.

وحضر حزب المؤتمر بمشاركة مجلس جنوب أفريقيا الهندي، ومجلس الملونين ومؤتمر جنوب أفريقيا لنقابات العمال وكونجرس الديمقراطيين، لمؤتمر شعبي ضخم دعا من خلاله عموم الشعب إلى وضع تصور لحقبة ما بعد الفصل العنصري.

ولكن السلطة لم يهنأ لها بال حتى حظرت مانديلا من الظهور العام في جوهانسبرج لمدة خمس سنوات، ما دعاه في أحيان إلى التخفي، وأخرى للتحدي وفي الوقت ذاته تحطمت الحياة الزوجية الهنيئة التي كان يتمتع بها مانديلا عقب طلب إيفلين الطلاق لمساروتها شكوك حول خيانة زوجها لها. 

العظمة في هذه الحياة ليست في التعثر، ولكن في القيام بعد كل مرة نتعثر فيها: 
وفي عام 1956 اعتقل مانديلا على أثر اتهامه بالخيانة العظمي وتم الزج به هو وعدد كبير من المجلس التنفيذي في سجن "جوهانسبرج" وسط احتجاجات واسعة، ولكنه سرعان ما تم النقض على تلك الأحكام بجانب سحب عريضة الاتهام من قبل النيابة.


الاعتقال الأخير: 
وجه العديد من الاتهامات إلى مانديلا وعدد من رفاقه منها "التحريض ومغادرة البلاد دون أذن"، ولكنها لم تكن وافية الأدلة ودافع مانديلا في تلك القضايا عن نفسه دون محام ورفض استدعاء أي شهود وحول مرافعته إلى خطاب سياسي، وهو ما دعا المحكمة لإقرار كونه مذنبا، وتم الحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وقاد الهجوم على مانديلا، "بيرسي يوتار" كبير ممثلي الادعاء والذي طالب بتوقيع عقوبة الإعدام على المتهمين وعلى أثره اعترف مانديلا والمتهمون الآخرون بتهمة التخريب ولكنهم نفوا أي موافقة على إشعال حرب عصابات ضد الحكومة. 

واستخدم مانديلا ورفاقه المحاكمة لتسليط الضوء على قضيتهم السياسية، وألقى خطابا مستوحى من خطاب كاسترو "التاريخ سيغفر لي"، تناقلته على نطاق واسع التقارير الصحفية على الرغم من الرقابة الرسمية. 

جلبت المحاكمة الاهتمام الدولي، مع دعوات دولية لإطلاق سراح المتهمين، صدرت من مؤسسات مثل الأمم المتحدة ومجلس السلم العالمي. 
وصوتت جامعة "اتحاد لندن" على مانديلا رئيسا لها، ونظمت وقفات احتجاجية ليلية أمام كاتدرائية "سانت بول" في لندن. ومع ذلك، تجاهلت حكومة جنوب أفريقيا جميع طلبات الرأفة، معتبرة أن المتهمين هم محرضون شيوعيون عنيفون.

وفي 12 يونيو 1964، اعتبر القاضي "دي ويت" كلا من مانديلا واثنين من المتهمين مذنبين في التهم الأربع، وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة بدلا من الإعدام. 

مرت 27 عاما على الزج بنيلسون مانديلا لم ينفصل يوما واحدا عن أفكاره ولم يتنازل عن توجهاته ضد القمع بل تواصل بالمراسلة مع العديد من الهيئات والأحزاب وصنع صداقات من داخل السجون التي مر عليها خلال فترة احتجازه، وجاء يوم 2 فبراير 1990 ليكون يوم الحسم والإفراج عن المناضل الذي قضى أجمل سنواته خلف الأسوار لينشر الحرية. 

نهاية الفصل العنصري وبداية عهد جديد للحرية 
عقب خروج "مانديلا" من السجن طاف العالم لجمع تبرعات لحملته لملاقاة مانحين أثرياء بمن فيهم أنصار نظام الفصل العنصري، وبالفعل تم انتخاب مانديلا رئيسا، وتنصيبه في "بريتوريا" في 10 مايو 1994، وتابع المراسم عبر بث تليفزيوني، مليار مشاهد حول العالم، وحضر هذا الحدث 4000 ضيف، من بينهم قادة العالم من خلفيات متباينة، كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا.

أصبح مانديلا رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية التي هيمن عليها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ولم تكن له أي تجربة في الحكم وضمت الحكومة أيضا نوابا من الحزب الوطني وأنكاثا، تماشيا مع الاتفاقات السابقة، أصبح دي كليرك نائبا أول للرئيس، في حين تم اختيار ثابو مبيكي نائبا ثانيا، وبالرغم من أن مبيكي لم يكن الاختيار الأول لهذا المنصب، إلا أن مانديلا أراده أن ينمو ليعتمد عليه بشكل كبير خلال فترة رئاسته، والسماح له بتنظيم تفاصيل السياسة، انتقل مانديلا إلى مكتب الرئاسة في كيب تاون، وسمح لدى كليرك بالبقاء في مقر الرئاسة بشور جروت، وبدلا من واستبروك مانور، والذي أطلق عليه اسم "وادي الرحمة" في اللغة الأفريقية، احتفظ بمنزله في هوتون.

وكان له منزل، أيضا، مبني في بلدته، كان يزوره بانتظام، ويتمشى في أنحاء المنطقة ويجتمع مع السكان المحليين ويحل النزاعات القبلية، ولم يسعى مانديلا إلى الانتقام من اعدائه ومن سجنوه وعذبوه، إنما أخذ الصفح والمسامحة سبيلين لتقدم البلاد حتى مرت خمس سنوات على حكم حظي برضاء عدد كبير من قطاعات شعبه حتى وهن جسده وشعر بأنه لم يعد قادرا على الاستمرار في العمل السياسي وتقاعد عن العمل السياسي عام 1999.

ولكن ذلك لم يمنعه من استمراره في نشاطه الخيري عبر مؤسسة "نيلسون مانديلا" التي أنشئت بقصد مكافحة انتشار الإيدز والتنمية الريفية وبناء المدارس، حتى وافته المنية على حين غرة، وأسدل الستار عن أحد العظماء الذين مجدهم التاريخ رحل عن عالمنا المثال الحي للمسامحة والنضال يوم 5 ديسمبر عام 2013.
الجريدة الرسمية