مصر التى . .
سواء كانت «مصر» التى فى خاطرى، كما فى الأغنية الوطنية الشهيرة لـ«أم كلثوم»، أو «مصر» التى يقول الآن أغلب أبنائها إنها فى خطر، فإن اللحظة فارقة، والاختبار الوطنى عسير، وقد يترتب عليه مستقبل أجيال عدة، إضافة إلى مستقبل البلاد كلها وما يتعلق بمكانتها ودورها .
لقد أصبحت «مصر» تقيم فى الشوارع والميادين أكثر مما تقيم فى البيوت،
والمصانع، والجامعات، والشعارات تتكاثر ويلد الاعتصام اعتصامات، والأسئلة التى
أصبحت مساءلات تبقى بلا إجابات شافية، بحيث يعود الناس إلى بيوتهم وأعمالهم،
وتنتظم الحياة .
قد نختلف أو نأتلف على الأسباب التى شحنت المناخات السياسية والاجتماعية
بكل هذا الاحتقان، لكن ما لا خلاف عليه هو أن الاستخفاف بما يجرى على ضفاف النيل
سيفضى حتمًا إلى خسائر فادحة على الصعيدين المحلى والقومى، ومواصلة الإلحاح على
ضرورة تغليب العام والوطنى على الشخصى، يبدو أنها مجرد عزف بلا أوتار؛ لأن هذا قيل
مرارًا وفى كل المناسبات التى شهدت احتدامًا، أو نزاعًا شبه مسلح، لكن بلا طائل، فهل
سيضطر المصريون إلى دفع التكلفة كاملة من الدم، والتمزق، وتأزيم الحياة، كى يصدقوا
بأن فقدان السلم الأهلى لا يمكن تعويضه، وقد يتعذر استدراكه فى ربع الساعة الأخير؟
ما من ثورة فى التاريخ تحولت إلى متوالية بلا نهاية لإسقاطات سواء
تعلقت بالنظم أو الدول أو المؤسسات، وما من ثورة تعود كل عام أو عامين إلى أول السطر
وكأن شيئًا لم يكن، لأن مصر بالذات شهدت ثورات كان الفاصل التقليدى بينها من
الناحية الزمنية نصف قرن على الأقل، بدءًا من ثورة «عرابى»، ومرورًا بثورة «1919»،
وليس انتهاء بـ«يوليو 1952».
إن أول خطر يهدد مصر المقبلة هو «التفسخ»، وتفكيك النشيد والهوية،
بحيث تعود كل مدينة لتتشرنق داخل أسوارها، ويصبح الجهوى والفرعى بديلًا للأصيل
والتاريخى، وقد لا يتضح هذا الخطر الآن، لكن القرائن المصاحبة له تلوح فى الآفاق،
وتنذر بحالة من الصوملة التى طالما جرى التحذير من تكرارها .
ولم يكن الدم ذات يوم عنصرًا فى مكونات التغيير، وحتى الثورات فى مصر كما هو الآن، وإن كان هناك دم فقد سال ضد احتلال وغزاة، وليس بأسلحة التوائم وذوى القربى .
ثمة إذا، تحول يطول المزاج السياسى والنفسى السائد فى مصر، وهو من
خارج تقاليدها وأعراف حراكها التاريخى السلمى .
وبعيدًا من ثقافة المؤامرة وفقه التدخلات، فإن المصريين هم الأدرى بشعاب أرضهم، لكن هذه الدراية يجب أن تتضاعف الآن؛ لأن مصر فى الخاطر والخطر معًا .