عالم الطفولة السياسية
كنا في طفولتنا الباكرة يعاير بعضنا بعضاً لأسباب مضحكة من باب الكيد والإغاظة.. فأنا لدى حذاء جديد أو حلة جديدة والآخر لا.. أنا لدى مجموعة من الأصدقاء والآخر لا.. وهكذا وهكذا.. وكان هذا يسعدنا أيما سعادة، وأننا بلغنا هدفنا وحققنا ما كنا ننشد حين نجد خصومنا، أو هكذا كنا نتخيل، يغتاظون ويصرخون ويهددون ويتوعدون.. والعكس كان يحدث، حين ينال منا هؤلاء "الخصوم"، خاصة عندما يجدون شيئا يكيدوننا به ويهيج كوامن الأشجان في نفوسنا.
كنا لا ننام الليل.. نظل مسهدين نستعيد ما حدث، نفكر ونخطط لما هو آت، وما الذي ينبغي أن نفعله إذا رأينا فلانا أو علانا.. "الشقاوة" لم تكن تنتهى، وحياكة المؤامرات- رغم صبيانيتها- لم تكن تتوقف.. حين أنظر إلى أحفادى، خاصة الأطفال منهم، وهم يتكايدون، أتذكر تلك الأيام من عمرنا، وأن شيئا لم يتغير بالنسبة لعالم الطفولة رغم مرور أكثر من ستة عقود ونصف العقد، وأعتقد أنها سوف تظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. لكن، إذا كان ذلك جائزا في حق الأطفال، فلا يجوز في حق الرجال بحال.. فالرجولة تشى بعدة معانٍ أهمها النضج والعقل والحكمة والترفع عن الأعمال الطفولية أو الحركات الصبيانية.
حين فاز الإخوان في الانتخابات النيابية الماضية، بغرفتيها، وأثار ذلك المعارضة بجميع أطيافها، إذا بقيادات الجماعة تردد، وكأنها تخرج لسانها لهم، قائلة: موتوا بغيظكم(!)،الشيء نفسه تكرر حينما فاز الدكتور مرسي في انتخابات الرئاسة بمنصب رئيس الدولة.. تعجبت كثيرا لهذا التصرف، وقلت في نفسى يبدو أننا عدنا من خلال هذه القيادة ومن لف لفها إلى سالف الأيام.
ودارت الأيام، وجرت ثورة ٣٠ يونيو، وبعدها بثلاثة أيام فقط تمت الإطاحة بحكم الإخوان في ٣ يوليو، وكان للجيش دوره الحاسم في ذلك.. ثم كان ما نعرفه بعد ذلك من أحداث.
المهم، أنه استشعارا بالدور الذي قام به الجيش، تم تأليف وتلحين نشيد "تسلم الأيادي" الذي تلقفه الفرحون والكائدون والغائظون للإخوان، وظلوا يرددونه بالليل والنهار، وفى كل مناسبة كبرت أم صغرت.. وفى المقابل، تم صك شعار الأربعة أصابع، ذي الخلفية الصفراء -لا أدرى لماذا- كناية عما حدث في "رابعة"، يرفعه ويشير به في وجه "الخصوم" كل من له علاقة بالإخوان ومناصريهم، سواء اشتركوا في اعتصام رابعة أم لم يشتركوا، وسواء كانوا مصريين أو غير مصريين.
الإخوان ومناصروهم لا يطيقون سماع نشيد "تسلم الأيادي"، ويشعرون بأنه رصاص مصهور يصب في آذانهم.. يحرق قلوبهم ويفتت أكبادهم وينغص عليهم حياتهم.. وفى ذلك شعور بالسعادة والبهجة والغبطة لكل من شايع ثورة ٣٠ يونيو، الذين يكرهون شعار رابعة كراهية التحريم، ويتأذون منه إيما إيذاء، ويصفون كل من رفعه بالخبل والبلاهة.. ويبدو أن كل طرف سعيد بما يفعل، حريص على أن يرى الطرف الآخر وهو يتألم ويتوجع، فيزداد في الكيد والإغاظة لعله ينال ما يروى ظمأه ويسد جوعه(!).
أشعر أننا أمام نوع من الطفولة، لكنها طفولة سياسية تثير الإشفاق والرثاء.. هي لا تبني وطنا قويا، ولا تقيم مجتمعا حرا، بل تجرهما إلى الخلف.. الوطن يا سادة أمامه تحديات كبرى عليه أن يتصدى لها.. من غير المعقول أن يقع المجتمع أسيرا لهذه "الطفولة" البائسة، والمطلوب أن نخرج من دائرتها بأسرع ما يمكن، إن استحقاقات ثورتي يناير ويونيو تدعونا إلى الارتفاع لمستوى التحدى، خاصة أن هناك الجديد الذي تقوم به مؤسسات الدولة بالنسبة للسياسات الخارجية تجاه الدول العربية ودول منابع النيل وروسيا والصين، الأمر الذي سوف ينعكس إيجابا على الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية في مصر.