محمود السعدني.. الساخر.. الثائر.. مؤرخ الحرافيش
لم يكن ساخرًا.. ولم يكن مضحكًا.. ولم يكن أبدًا راغبًا في أن يحج الناس إلى مجلسه ليرسم فوق شفاههم البسمات، أو يمحو من فوق جبينهم، الذي خطت عليه أقدام الفقر والعوز- عبرات السنين.. لم يكن كل ذلك.. فقط كان رائحة الرصيف.. وشذى الأرض البكر.. وعبق الطين الأسمر.
هو المصري بكل تفاصيله.. الحكيم.. الصلب.. الفهلوي.. القراري.. الطيب.. اللئيم.. البسيط.. الحويط.. كنت إذا جاورته في مجلس، ترى في قسمات وجهه كل المصريين عبر آلاف السنين.. روح تتفجر.. رفض كل شيء لا يرضاه.. هو ليس مجرد كاتب.. اختار الانحياز إلى البسطاء.. إنه مؤرخ الحرافيش وأميرهم.. رأينا في التاريخ مؤرخين يكتبون عن الملوك والحكام مادحين مهللين، وقليلون فقط هم من خاطروا وكتبوا تاريخا للحرافيش والدراويش.. هو أكثر من انحاز إلى هؤلاء الفقراء البسطاء.
هل رحل؟ نعتقد أن الموت يغيب الأجساد.. أما الأرواح المشاكسة.. فلا تغيب بسهولة.. إنها تقاوم.. وتقاوم، ولا تهدأ إلا بعد أن تستقر في وجدان الشعب، وقد فعل الولد الشقي، لم يكن إلا رحلة من العناء تتحرك على الأرض.
كان السعدني يمثل مدرسة من الكتابة تخترق القلوب والعقول، وتؤسس لمملكة الشعب، في مقابل مدرسة كتاب الحكم، عاش السعدني حياة مليئة بالمفارقات والصدامات، ومنذ بداياته الأولى في عالم الصحافة انخرط بقوة فاعلية في الحياة السياسية المصرية عاش كواليسها ودهاليزها وتقلبات قادتها وزعمائها.. ولد محمود السعدني في 20 نوفمبر 1928 بالجيزة بالقاهرة الكبري وارتبط بها ارتباطا شديدا، وفي مطلع حياته في الخمسينيات شارك في الندوة الأسبوعية الشهيرة بمقهي عبدالله الشعبية بميدان الجيزة وكان من روادها الأوائل الملحن المعروف الشيخ زكريا الحجاوي والشاعر محمود حسن إسماعيل والكاتب عبد الرحمن الخميسي والكاتب المسرحي نعمان عاشور.
وكانت الندوة بمثابة أكبر تجمع للكتاب والمثقفين في مصر في تلك الفترة، فكان من روادها الدكتور علي الراعي والشاعران صلاح عبدالصبور ونجيب سرور والناقد رجاء النقاش والشيخ قطامش، أحد أشهر المحامين الشرعيين وأحد ظرفاء العصر آنذاك.. وقد سجل السعدني حوارات تلك المقهى في كتابه (مسافر على الرصيف).
عمل "السعدني" في بدايات حياته الصحفية في عدد من الجرائد والمجلات الصغيرة التي كانت تصدر في شارع محمد علي بالقاهرة، وعمل بعدها في مجلة "الكشكول" التي كان يصدرها مأمون الشناوي حتى إغلاقها، ثم عمل بالقطعة ببعض الجرائد مثل جريدة المصري لسان حال حزب الوفد وعمل أيضًا في دار الهلال، كما أصدر مع رسام الكاريكاتير طوغان مجلة هزلية أغلقت بعد أعداد قليلة.
أيَّد السعدني الثورة وعمل بعد الثورة في جريدة "الجمهورية" التي أصدرها مجلس قيادة الثورة وكان رئيس مجلس إدارتها أنور السادات ورئيس تحريرها كامل الشناوي، وبعد تولي السادات منصب رئاسة البرلمان تم الاستغناء عن خدمات محمود السعدني من جريدة الثورة أسوة بالعديد من زملائه منهم بيرم التونسي وعبدالرحمن الخميسي.. وعمل بعد ذلك في مجلة "روزاليوسف" الأسبوعية مديرًا للتحرير عندما كان إحسان عبد القدوس رئيس التحرير وكانت "روزاليوسف" حينها مجلة خاصة تملكها والدة إحسان.
وأثناء زيارة صحفية إلى سوريا قبيل الوحدة بين البلدين طلب أعضاء الحزب الشيوعي السوري من السعدني توصيل رسالة مغلقة للرئيس جمال عبدالناصر فقام بتسليمها لأنور السادات دون أن يعلم محتواها، وكان في الرسالة تهديد لعبدالناصر لذا تم إلقاء القبض عليه وسجن ما يقارب العامين، أفرج عنه بعدها فعاد ليعمل في روزاليوسف بعد أن أممت ثم تولي رئاسة تحرير مجلة صباح الخير.. وانضم إلى التنظيم الطليعي وكان له في تلك الفترة نفوذ كبير.
وعقب وفاة عبدالناصر حدث صراع على السلطة بين الرئيس أنور السادات وعدد من المسئولين المحسوبين على التيار الناصري مثل شعراوي جمعة وسامي شرف ومحمود فوزي وغيرهم.. وانتهى الصراع باستقالة هؤلاء المسئولين واعتقال السادات لهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب وكان اسم محمود السعدني من ضمن أسماء المشاركين في هذا الانقلاب وتمت محاكمته أمام محكمة الثورة وأدين ودخل السجن.
وكما يقول محمود السعدني فإن القذافي حاول التوسط له عند السادات إلا أن السادات رفض وساطته وقال إن السعدني قد أطلق النكات عليّ وعلي أهل بيتي "زوجته جيهان السادات" ويجب أن يتم تأديبه ولكني لن أفرط في عقابه.
بعد قرابة العامين في السجن أفرج عن السعدني ولكن صدر قرار جمهوري بفصلة من صباح الخير ومنعه من الكتابة، بل منع ظهور اسمه في أي جريدة مصرية حتى في صفحة الوفيات.. بعد فترة قصيرة من المعاناة قرر السعدني مغادرة مصر والعمل في الخارج.
غادر السعدني مصر متوجهًا إلى بيروت، حيث استطاع الكتابة بصعوبة في جريدة السفير وبأجر يقل عن راتب صحفي مبتدئ؛ والسبب في صعوبة حصوله على فرصة عمل هو خوف أصحاب الدور الصحفية البيروتية من غضب السادات، قبل اندلاع الحرب الأهلية غادر السعدني إلى ليبيا للقاء القذافي الذي عرض عليه إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت، إلا أن السعدني رفض ذلك خوفًا من اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين والذين سيرفضون بالتأكيد هذا الوافد الجديد الذي سيعد تهديدًا لتجارتهم الرائجة.
وفي عام 1967 وصل السعدني إلى أبوظبي للعمل كمسئول عن المسرح المدرسي في وزارة التربية والتعليم، ويبدو أنه لم ترق له الفكرة، لذا قبل بالعرض الذي تقدم به عبيد المزروعي وهو إدارة تحرير جريدة الفجر الإماراتية.
كان العرض مغامرة سياسية جازف بها عبيد المزروعي، خاصة أن السعدني وضع شروطًا مهنية قاسية أهمها عدم التدخل في عمله وهو الشرط الذي يبدو أنه تسبب بعد أقل من أربعة أشهر بمصادرة أحد أعداد جريدة الفجر من الأسواق بسبب مانشيت أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي وكانت إيران يومها تطالب بالإمارات كلها وتعتبرها من ملحقيات إيران، لذا لم تغفر سفارة إيران للسعدني رفعه شعار "جريدة الفجر جريدة العرب في الخليج العربي" وطالبت السفارة الإيرانية صراحة بحذف صفة العربي عن الخليج لأنه "خليج فارسي"، كما يقولون.
تعاقد محمود السعدني مع منير عامر من مجلة صباح الخير القاهرية ليتولى وظيفة سكرتير التحرير وليدخل إلى صحافة الإمارات مدرسة صحفية مصرية جديدة هي مدرسة روزاليوسف بكل ما تتميز به من نقد مباشر وتركيز على الهوية القومية والابتعاد قدر الإمكان عن التأثير المباشر للحاكم وصانع القرار.
وبعد ضغوط إيرانية على حكومة الإمارت اضطر السعدني إلى مغادرة أبوظبي إلى الكويت، حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الصحفي أحمد الجارالله، ولكن تلك الضغوط لاحقته هناك أيضًا فغادر إلى العراق ليواجه ضغوطا من نوع جديد وهي ممارسات الموظفين العراقيين المسئولين في مكتب مصر بالمخابرات العراقية الذين مارسوا ضغوطًا كبيرة عليه لإخضاعه فكان قراره بعد لقاء مع نائب الرئيس العراقي في ذلك الوقت صدام حسين بمغادرة العراق إلى لندن.
وبتمويل غير معلن من حاكم الشارقة الحالي تمكن السعدني بالاشتراك مع محمود نور الدين "ضابط المخابرات المصري المنشق على السادات" والكاتب الصحفي فهمي حسين "مدير تحرير روزاليوسف الأسبق ورئيس تحرير وكالة الأنباء الفلسطينية" وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين من إصدار مجلة 23 يوليو في لندن"، وكانت أول مجلة عربية تصدر هناك، والتي حققت نجاحًا كبيرًا في العالم العربي وكانت تهرب إلى مصر سرًا.
انهارت 23 يوليو وتوقفت عن الصدور وعاد السعدني وحيدًا يجتر أحزانه في لندن إلى أن تم اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة الشهير في أكتوبر 1981، وانشغل السعدني في أغلب كتاباته بالكتابة الساخرة فسجل بلغة ساخرة ذاكرة المجتمع الثقافي من خلال حوارات المثقفين على المقاهي وانتقد من خلالها الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وبدافع من هذه الروح عارض توفيق الحكيم في كتابه الشهير عصفور من الشرق بكتاب أصدره السعدني في 3 أجزاء عن فترة منفاه في لندن سماه "حمار من الشرق" سجل فيه احتكاكه بالغرب ورصد نماذج من حياة بعض المثقفين العرب المقيمين هناك، وفي هذا الكتاب أنعش السعدني ذاكرة أدب الرحلة وجعل المعارضة الساخرة إحدي مقوماته الشيقة.
ومن أهم أعمال السعدني "الموكوس في بلاد الفلوس"، ومن أشهر أعماله مذكراته التي صدرت بعنوان الولد الشقي وهي تجمع بين اليوميات والمغامرات الصحفية والمآزق الشخصية.. ووصف السعدني مذكراته، قائلًا: رغم الظلام الذي اكتنف حياتي ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي فإنني لست آسفًا على شيء فلقد كانت تلك الأيام حياتي.
ومن أعماله الأخرى "الظرفاء وأمريكا يا ويكا"، "والمضحكون" الذي تناول فيه عددًا من ممثلي الكوميديا في مصر و"الطريق إلى زمش" والكلمة الأخيرة المكونة من ثلاثة حروف هي اختصار للتعبير العامي المصري زي ما أنت شايف.. ومن أبرز سمات أسلوب السعدني التخلي عن البلاغة التقليدية ونحت قاموس جديد من الألفاظ التي تجمع بين الفصحي والعامية المصرية.
كما عرفت أعماله مبكرا الدراما الإذاعية في أوج مجدها،فتابع المصريون عن بشغف في السبعينيات مسلسل الولد الشقي والذي أذيع على ثلاثة أجزاء في الإذاعة المصرية وقام ببطولته الممثل الشهير محمد رضا وصلاح السعدني والفنانة صفاء أبوالسعود.
قال عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي: يخطئ من يظن أن السعدني سليط اللسان فقط، إنه سليط العقل والذكاء أيضًا.. لقد هدأ العقل واستراح القلب.. وذهب الجسد يسكن التراب الذي عجنته التجربة والهمته حكمة المصري القديم.. ساخر انت بلا تكلف.. مسافر انت في رحلتك الأخيرة.. بلا متاع.. متاعك قلوبنا.. ورائحتك مسك الرصيف.. فإن ملح الأرض لا يغيبه الموت.. بل يهبه حياة جديدة مع الطيبين.