كُتَّاب وأقلام تحت المجهر
لطالما نقرأ لكُتَّاب عبر صفحاتهم ومدوَّناتهم ومواقعهم على شبكة الإنترنت، أو من خلال رصد مقالاتهم المنشورة وإصداراتهم الورقية، ولكن قليلون هم أولئك الذين يحرِّكون مشاعرك، ويدفعونك للتفكير دفعًا حثيثا يهزُّ كيانك بكامله، وقليلون من يأسرونك بسحر أسلوبهم وبلاغتهم وأصالة لغتهم، وسلاسة تعبيرهم، وغزارة إنتاجهم الفكرى، ويخلِّدون بأقلامهم بصمات بداخلك تجعلك تتابع كتاباتهم بشوق واهتمام بالغين فتغيِّر مفاهيمك الخاطئة، وتصحح أفكارك القديمة وتنفض الغبار عن ذاكرتك، فتنشط فى التفكير وتتأمل فيما تقرأه من صفحات، وتخاطب نفسك لأنك تشعر بأن ما تقرأه هو خطاب موجَّه إليك، فتنصت إليه بضميرك الإنسانى والأخلاقى وبكل جوارحك، فلا تملُّ ولا تشبع من تكرار ما قرأته، وكأنك فى كل مرة تقرأ ما سبق وأن قرأته برؤية جديدة، وفهم جديد.
ومثل هؤلاء الكُتَّاب يجعلونك تقف احتراما لأقلامهم التى أبدعت ونسجت بأفكارها ثقافة متحرِّكة، تعلِّم القارئ كيف يبنى نفسه بالعلم، وكيف يندفع فى البحث بدافع الحب والحرص الفردى وليس بدافع التسلية وملأ الفراغ، أو بدافع الرغبة فى تجاوز مرحلة الامتحان بنجاح.
ومثل هؤلاء الكُتَّاب يغرسون بداخل القارئ روح الثقافة كسلوك، وليس كمعلومات يتلقَّاها ويستقبلها ليحفظها فى خزانة ذاكرته، كما يحفظ الكتب فى خزانة مكتبه يتراكم عليها غبار النسيان.
ومثل هؤلاء الكُتَّاب هم نخبة لا تتساوى فى التصنيف والتقييم مع من دونهم، فكل الكُتََّاب وإن كانوا يمتلكون هواية الكتابة وأسلوب التعبير عن أفكارهم ويحفظون الكثير من فنون الكتابة، ولكنهم ليسوا كلهم سواء، يدركون النجاح والإبداع فى امتلاك حب الناس وتقديرهم، ولا يصل كل كاتب بالقارئ لتغيير سلوكه اليومى وتصرفاته، وترويض القلم لمواجهة الواقعات والحالات والتأقلم مع الأحداث والقضايا التى يتحرِّك بها المجتمع، وليس كل كاتب يحمل روح المبادرة فى عرض حلول للمشاكل ومواجهة تحديات العصر، وينتقل بالقارئ والمجتمع نحو آفاق ثقافية متقدمة، وتفسح لها مجال الإبداع والابتكار فى ممارستها.
ولكننا مازلنا نعانى من واقع متخلف يخرِّج لنا كُتَّابا يجلسون فى برج عال جدا بمعزل عن واقع حياتهم اليومية وواقع مجتمعاتهم، ويخرِّج لنا قرَّاءً يبحثون عن الكتابات التى تشبه الوجبات الخفيفة لسدِّ الجوع، وملأ الفراغ المتبقّى عن مشاهداتهم وهواياتهم التى تحكَّمت فيها وسائل التكنولوجيا الحديثة، وحياتهم المشحونة باهتمامات كثيرة، ويظل السؤال المطروح: كيف الوصول إلى حقن دم الحضارة والثقافة فى بدن متخلف؟
والجواب: نحن بحاجة لتغيير شامل للمنظومة الفكرية والتعليمية التى تشحذ العقل وتغذِّيه على أنقاض الموروث العلمى القديم، بدل تحريره لتنطلق الأفكار الجديدة المشرقة والمستنيرة، كما نحن بحاجة لبعث الثقافة كسلوك أخلاقى واجتماعى واقتصادى وسياسى ومعرفى.. والخروج من بوتقة التقليد العلمى، وتكرار النسخ المعرفية الرافضة للتجديد، والنُّهوض بثقافة المبادرة كسلوك وكممارسة، المناسِبة للمرحلة التى نعيشها، والتحرُّر من الجمود على ثقافة التخزين للمعلومات، وبعث ثقافة الإنتاج والعمل والسلوك المنسجِم مع متطلَّبات العصر، والذى يخدم مصالح الناس ويستجيب لقضاياهم وتساؤلاتهم ونوازلهم المتجدِّدة.