تاريخ الوطنية والدين فى مصر
شكل كيان الوطن ومفهوم الدين في مصر القديمة ثنائيةً عملية لازمة لكى تكون مجتمعًا منتجًا، فمصر صوبة زراعية تاريخية ارتبط الفرد فيها عضويًا بموضع أرضه، كى يبذل العناية والرعاية لها ليضمن إنتاجه الزراعى، عكس الراعى في الصحراء الذي ليس له مكان محدد يضمه ويلتزمه، فالتزام المكان أساس للإنتاج في واديها، ومن هنا نشأ مفهوم الاعتزاز بالموضع الذي هو الوطن في مفهومه العام.
وكذلك احتاج المصرى القديم ضمانة لتدفق مياه النيل الذي هو عماد الزرع والضرع، فوجد في المعتقد الدينى غايته لذلك، فشَّكَّلَ الدينُ عنده وسيلةً اجتماعيةً ضامنةً أكثر من كونه غاية شخصية فارضة، وكذلك احتاج لنظامٍ حاكمٍ يحمى مكان استقراره وعملية إنتاجه، ويرعى مفهومى الوطن والدين عنده، ومن هنا برز دور الحاكم كقائدٍ للوطن ورمزٍ للدين في ذات الوقت، باعتباره الضامن لغذائه والحامى لأمنه ومصالحه، فالمصرىُ لصيقٌ بفكرةٍ جامعةٍ يكون الوطنُ والدينُ والحاكمُ عناصرَ مادتها، حيث يشكل الوطن والوطنية معنى الأمان والاستقرار.
ويكون الدين وسيلةً وضمانًا للمجتمع المنتج، بينما يمَثَّلُ الحاكم القوة التي تفرض الأمن وترعى الدين، ولذلك سعى حكام مصر منذ القدم إلى ربط أنظمتهم الحاكمة بصورة الدين لإضفاء المصداقية والشرعية عليها، فسلاطين المماليك اهتموا ببناء المساجد الكبرى التي حملت أسماءهم، وما زفة المحمل الرسمية الذي كان يضم كسوة الكعبة إلا امتدادًا لهذا المنهج، وفى الحقبة الناصرية كان تدشين إذاعة القرآن الكريم لازمًا بجانب المشروع الوطنى القومى لعبد الناصر، وبالرغم من أن السادات أعلن أنه ( لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين )، فلم يجد غضاضة في إضفاء لقب الرئيس المؤمن عليه وأنه رئيس مسلم لدولة إسلامية التماسًا لرمزية الدين ومكانته أمام شعبه.
ولذلك كان من أخطاء الحركة الوطنية منذ ثورة ١٩١٩ أنها أهملت الدين كثابت مجتمعى، فمهدت لظهور جماعة الإخوان التي لعبت بورقته المتروكة واستغلته لصالحها، بينما كان أكبر خطاياها نبذها لواقع الوطن ومفهوم الوطنية لصالح مشروعها للخلافة، فخرجت غير مأسوف عليها من المشهد السياسي للوطن والمجتمع، فلا وطنية في مصر بغير شراكة مع ثوابت دين، ولا وسطية لدين فيها بغير اعترافٍ بخصوصيتها في كيان الوطن ومفهوم الوطنية على أرضها.