رئيس التحرير
عصام كامل

أعمال عنف تعم مدن تونس.. والمواطنون خائفون ويائسون من النخبة السياسية

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

سقوط ضحايا للإرهاب العائد بقوة:

_ تأجيل الحوار الوطني بسبب رفض استقالة الحكومة
_ أعمال عنف تعم المدن.. وتونس أضحت مرتعا للفوضى

_ التونسيون خائفون ويائسون من النخبة السياسية

لم يجد الحسين العباسي، رئيس اتحاد الشغل، الذي يرأس الرباعي الراعي للحوار الوطني من حل أمامه سوى الإعلان للصحفيين المتعبين من طول الانتظار، أن الحوار الوطني تم تأجيل جلسته الافتتاحية، وسينطلق يوم غد الجمعة الساعة العاشرة صباحا. 

وأفاد العباسي، في تصريح لوسائل الإعلام في ساعة متأخرة من ليلة يوم الأربعاء بمقر وزارة حقوق الإنسان، أنه تم بحث خلال اجتماع الرباعي الراعي للحوار مع الأطراف الموقعة على خارطة الطريق، مسألة مزيد التشاور مع رئيس الحكومة، على لعريض، لتقديم مزيد من التوضيحات حول الخطاب الذي ألقاه بخصوص تعهد الحكومة بالاستقالة، وذلك إلى جانب تناول موضوع النواب المنسحبين، الذين قال إنه سيتم الاتصال بهم الخميس لبحث مسألة عودتهم إلى التأسيسي.

وكانت جبهة الإنقاذ التي تضم أحزاب المعارضة الفاعلة في الساحة انسحبت من قاعة الاجتماع التي كان قد تواجد فيها زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي رفقة الأمين العام لحزب حركة نداء تونس، قياديو المعارضة أعلنوا أنهم علقوا مشاركتهم في الحوار إلى حين تأكد استقالة حكومة على العريض.

والحقيقة أن العباسي الذي ظل خلال الساعات الأولى رفقة باقي رؤساء المنظمات الراعية للحوار، شبه متأكد من نجاح الحوار الذي استنزف طاقاته وجهده طيلة أكثر من شهرين أوشك أن ينتهي حال بدايته، أصيب بصدمة مثله مثل باقي التونسيين جراء الأحداث الإرهابية الخطيرة التي جدت ظهر الأربعاء في الجنوب وفي الليل في الشمال بما يوحي بأن التنظيم الإرهابي الذي يستهدف تونس مر إلى مرحلة تنفيذ تهديداته التي كانت أعلمت عنها المصالح الاستخباراتية التونسية والجزائرية والفرنسية والأمريكية.

ما عاشته تونس يوم الأربعاء الأسود، حري بان يدون في شريط رعب هوليودي، فلم تجف دموع التونسيين بعد جراء استشهاد 6 أعوان للحرس بإحدى قرى محافظة سيدي بوزيد الجنوبية، التي شهدت انطلاقة ما يسمى بثورة الربيع لعربي، حتى نزل خبر استشهاد عون أمن آخر وسقوط جرحى بجهة منزل بورقيبة من محافظة بنزرت( 60 كلم شمال شرق العاصمة تونس) جراء إطلاق نار عشوائي من طرف أشخاص ملثمين كانوا على متن سيارة مكتراة قطعوا طريق دورية للحرس وأجهزوا على أحد الأعوان بلا تردد.

ولئن كانت الحادثتان على نفس قدر الأهمية، فإن الملاحظين يدقون ناقوس الخطر مطالبين بعدم الجمع بين العمليتين، باعتبار أن الأولى وقعت في الجنوب وحملت توقيع إحدى الخلايا النائمة للمجموعة الإرهابية التي يتحصن بعض أفرادها بجبل الشعانبي وهم محاصرون منذ أكثر من ثلاثة أشهر من طرف قوات الأمن والجيش، بعد إقدامهم على قتل وذبح 8 من الجنود البواسل خلال شهر يوليو الماضي....يومان فحسب بعد اغتيال السياسي المعارض محمد البراهمي على أيدي أحد الإرهابيين، دخلت على أثره البلاد في أزمة سياسية خانقة خال التونسيون أنها ستنتهي بانطلاق الحوار الوطني.

الحوار الوطني الذي ظل بين اليقين والشك إلى حدود ساعة متأخرة من ليلة أول أمس الأربعاء، حيث اشترط قياديو المعارضة عدم الجلوس إلى طاولة الحوار إلا متى جاءهم خبر استقالة حكومة الترويكا، إلا أن قصر الحكومة كان يغلي هو الآخر وسط احتجاجات الصحفيين الذين حضروا منذ منتصف نهار الأربعاء، لمواكبة كلمة رئيس الحكومة التي دعوا إليها وكان منتظرا أن يعلن خلالها عن قرار استقالة حكومته ويتعهد بذلك كتابيا...عندها فقط كانت الأحزاب السياسية خارج السلطة، ستدخل الحوار الذي كان سينطلق وسط أجواء فرحة الانتصار...انتصار المعارضة وسقوط حكومة الترويكا.. سقوط النهضة وخروجها من الباب الصغير..

إلا أن الرياح عكست الاتجاه الذي أرادته المعارضة لها، فكان أن طلع على العريض في حدود الساعة السابعة والنصف بالضبط، أي بتأخير خمس ساعات كاملة عن موعده، ليعلن أن حكومته المنصرفة تماما لمتابعة الأحداث الإرهابية الخطيرة التي تشهدها مناطق متفرقة من البلاد، قررت التعهد بالتخلي عن السلطة،،،، بعد استكمال المسار التأسيسي. وهو موقف قديم في ثوب لم يكلف رئيس الحكومة نفسه عناء تغييره فجاء بنفس المفردات واضحا لا غبار عليه: لا استقالة قبل أشهر.

الإعلان عن هذا القرار جاء متزامنا مع وصول آلاف المتظاهرين تحت راية جبهة الإنقاذ المعارضة إلى ساحة القصبة حيث تجمعوا على بعد أمتار قليلة من مكتب رئيس الحكومة مرددين شعارات تطالب برحيله وتخلي حكومته على السلطة فورا...
النداءات التي تواصلت إلى الصباح لتتحول المظاهرة إلى اعتصام أراده منفذوه مفتوحا إلى حين إسقاط الحكومة، لم يكترث له لا العريض ولا مستشاروه ولا وزراؤه الذين التقوا لمدة ساعات متتالية لتدارس الأوضاع الأمنية العاجلة ثم خرج على أثر ذلك رئيس الحكومة ليلقي كلمة مقتضبة أمام الصحفيين وقد تعلقت أنظار التونسيين بشاشة التليفزيونات المحلية في انتظار ما سينطق به.


رجل الشارع لم يعد قادرا على تحمل المزيد من المصائب فقد ازدادت حيرته وتضاعف سخطه على النخبة السياسية التي يرى أنها خيبت آماله ولم تكن في مستوى تعهداتها إبان الحملة الانتخابية في أكتوبر 2011، وصارت تكاليف عيشه ثقيلة على ميزانيته المتواضعة.

رجال الشارع أو ما يسمى بــــ "الأغلبية الصامتة" التي التفتت إليها اليوم وسائل الإعلام لتستمع إلى أصواتها بعد أن أطل رأس الأفعى من جديد ليفترس شباب الوطن الجريح وهم يؤدون واجبهم بكل شجاعة، هي اليوم منقسمة، فمن التونسيين من يعتبر أن تنامي الإرهاب هو الذي عطل انطلاقة الحوار الوطني الذي كان سيضع نقطة النهاية لمسلسل الأزمة السياسية والاقتصادية المستفحلة، ومنهم من يرى أن تعنت المعارضة الجالسة على الربوة وتمسكها بتنفيذ أجندتها بإقصاء الحكومة ومن ورائها حركة النهضة من المشهد السياسي نهائيا هو السبب، فيما يشيع المعارضون أن حكومة على العريض التي يصفونها بالفاشلة وأساسا حركة النهضة هي التي رعت العناصر الإرهابية بتساهلها في التعامل معها في بداية نشأتها مما فتح المجال أمام قيادييها المتطرفين إلى استقطاب آلاف الشباب العاطل عن العمل وإغوائه بالمال لتنفيذ مخططاتها الإرهابية.

أما أغلب التونسيين من غير المتحزبين، فيعتقدون أن الأحزاب السياسية مجتمعة، في السلطة وخارجها، هي المسئولة عن تفشي الإرهاب وتهريب السلاح بانصرافها إلى التجاذبات السياسية العقيمة وانصرافها الكامل إلى تصفية حساباتها الحزبية الضيقة دون مراعاة لأولويات البلاد التنموية بالأساس.


من جهته، قال أستاذ القانون الدستوري الدكتور قيس سعيد إن النخبة السياسية أهدرت الأربعاء فرصة تاريخية للخروج من الأزمة وبناء نظام ديمقراطي يقبل كل واحد فيه الرأي المخالف، مضيفا أن السياسيين جاءوا إلى الساحة نتيجة الحراك الشعبي بنفس العقلية ونفس الخطاب الذي كان متداولا في الجامعات منذ ثلاثين عاما خلت، "وبذلك أصبح جميع الساسة خارج السياق التاريخي لأنهم حملوا إلينا آليات عمل قديمة وبالية لا تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة."

اعتبر الخبير في القانون الدستوري قيس سعيد أن الصراع اليوم بين من هم في المعارضة ومن هم في الحكم ليس صراعا من أجل إخراج البلاد من الأزمة الراهنة أو إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي بل هو صراع على السلطة.

وأشار سعيّد إلى أن من في السلطة يتصوّرون أنه بخروجهم منها قد تتم ملاحقتهم ومن في المعارضة يرون أن بقاءهم في نفس الوضعية يمكن أن يتسبب في إقصائهم وبقائهم لمدّة طويلة خارج الحكم.


وتحدّث سعيّد عن خارطة الطريق ليؤكد أنها غير قابلة للتطبيق بمواعيدها ومواقيتها مشيرا إلى وجود عديد العقبات القانونية والسياسية التي لا يمكن حّلها في المواعيد المضبوطة في خارطة الطريق.

قيس سعيد أوضح بحرقة كبيرة، أن تونس اليوم هي التي تدفع الثمن من أرواح أولادها الشهداء، والسياسيون يتفرجون، مضيفا أن الدولة التونسية هي المستهدفة في كيانها ووجودها، ومشددا على أنه لا أحد من الشعب يعلم علم اليقين ماذا يحدث بالضبط سواء في قاعات الحوار الوطني المغلقة أو من يقف وراء الجماعات الإرهابية المسلحة."

ويقر أستاذ القانون الدستوري، بأن كل الاحتمالات واردة بخصوص ما سيحصل خلال الأيام القليلة القادمة في ظل هذا التعنت وهذا الغموض في المسائل الإستراتيجية العالقة، محملال النخبة السياسية جميعها مسئولية الاختيارات الخاطئة والقرارات الفاشلة التي أوصلت البلاد إلى هذه المرحلة الخطيرة، داعيا الجميع إلى التحلي بالشجاعة والمصداقية وحب الوطن.

ومما يدعو إلى التشاؤم أن التونسيين تعاملوا يوم الأربعاء مع الذكرى الثانية لأول انتخابات حرة ونزيهة بعد الثورة بأساليب مختلفة تراوحت بين الفرح الخفي وبين التظاهر والتشنج والتعدي على الشخصيات السياسية لفظيا عبر وصفهم بنعوت قبيحة، إلا أن السواد الأعظم من الشعب الذي قصد مقرات عمله، فقد ظل منتظرا لتطورات الأحداث التي لا دور له فيها، ولكنه على قناعة بأن أيادي خفية تلعب وراء الستائر بمصير بلد بأكمله دون أن يعطي اسما محددا لهذه الأيادي التي وصفها " بالقذرة" لأنها تعرقل مسيرة البناء الديمقراطي وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء غصبا وإكراها.

ويستند التونسيون في الحكم على النخبة السياسية ككل بالفشل، في تواصل عمليات الاعتداء على مقرات الأمن العمومي طيلة ليلة الأربعاء الخميس، في مناطق متفرقة من البلاد بالإضافة إلى الهجمات على الدوريات الأمنية القارة، فيما يتساءل التونسي بمرارة في الحلق: "لماذا يخرج العفريت من قمقمه كلما اقترب حل الأزمة السياسية؟
من يغذي الإرهاب ومن يموله؟

أسئلة حارقة ولا أجوبة لها يملكها الشعب الحزين الذي يعيش أيام حداد حقيقية تملأ القلوب حزنا على رحيل شباب شجاع قدم الروح فداء للوطن...وطن جريح يئن من طعنات أبنائه السياسيين.

إن الخاسر الأكبر من عودة الإرهاب القوية، وتأجيل الحوار، وتعليق المعارضة مشاركتها فيه، واغتيال زهرات الوطن وأسوده، وبث الخوف في قلوب الناس صغارا وكبارا...هو الوطن...


الجريدة الرسمية