اللعب بالنار
تجنب الجدل السوفسطائى فضيلة، والسوفسطائية مدرسة فلسفية قديمة كانت تعتمد فى مناقشتها على الجدل العقيم الذى يقنعك بالأمر وعكسه فى آن واحد، يقلب الباطل حقاً والحق باطـــــــلاً فى آن واحد، وهذا النوع من الجدل ليس له مسوغ من عقل أو منطق، والاستمرار فيه يفضـــى إلى أحد مرضين من أمراض العصر أو كلاهما وهما مرضى الضغط والسكر، وقد ذم الله هذا المسلك فى التفكير حين نعت أصحابه بأنهم أهل باطل وضلال فى قوله تعالى: "يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق"، فإن كان ليس من الجدل بد فليكن بالتى هى أحسن: "وجادلهم بالتى هـــى أحسن" وإلا فالامتناع عنه فضيلة وأنا أنح هذا النحو تجنباً لمزالق الزلل واتقاءً للأمــــراض العصرية الناجمة عنه.
واليوم وقعت فى المحظور لأننى دخلت فى حلبة جدل مع أحد أعضاء حزب الحرية والعدالة فــى العمل بشأن حادث قطار البدرشين، ومدى المسئولية السياسية لوزير النقل ورئيــس الوزراء، فأنا أرى أنهما مسئولين سياسياً وقد أقر وزير النقل بذلك إلا أنه أبى الاستقالة وقد كرر رئيس الوزراء نفس الكلام وأبى الاستقالة على خلفية هذا الحادث.. دعك ممن قتل ودعك من الدماء التى سالت، فهم ليسوا أول من قتل ولا آخرهم ولا دمـــاءهم أول دماء تسيل وترتوى بها أرض مصر ولا آخرها. دعك من نحيب الأمهات وقهر الرجــــال. دعك من حزن الأخ أو الأخت ودعك من مصاب الأهل والجيران والأصحاب، دعك من هذا كله فهو ليس له وزن فى أعين الصغار.
تعددت الروايات بشأن أسباب الحادث ومدى المسئولية الجنائية التى يتحملها المتسبب فى هـــذه الكارثة وغيرها، إلا أن هذا لا يعنى أن الماء البارد الذى يجرى فى العروق ستحوله تـــــلال من الكلمات أو آلاف التقارير إلى دماء حارة، هذا لن يحدث. ما شغلنى حقاً وقض مضجعى ما أثاره هذا الزميل من كلام، فقد أرسل كلاماً غريباً وشــــاذاً عن وجود مؤامرة.. هذه المؤامرة قام بها مخربون من أنصار جبهة الإنقاذ والمسيحيين بهــــدف ضرب مشروع الإخوان و"مرسى"، دعك من التفسير التآمرى لكل حادث يقع لتبرئة الساحة من التقصير والإهمال الذى يصل إلى حد العجز والجهل فى مواجهة الأحداث، فهم يعزون ذلك إلى الفلول تارة وأخرى إلى جبهة الإنقاذ وثالثة إلى أنه إرث النظام السابق، والــجديد هذه المـــرة نسبته إلى المسيحيين.
أنا أفهم عن جماعة الإخوان وذراعها السياسى أنهم لا يطلقون كلاماً من غير تلقين مسبق للكافة، أى أن هذه الكلمات لا تكون من عنديات العضو وإنما متفق عليها ومقصودة، وهى أشـــــبه بكرة اللهب المربوطة فى ذيل قطة جرى إطلاقها فى حقول قمح على وشك الحصاد، لا شك أن النتيجة كارثية ، والنار حين تشتعل لا تميز فى الحرق فهى تأت على الأخضر واليــابـــس دون تمييز، ومن هنا أحذر الجميع من اللعب بالنار.