أرنون جروس ينشر مذكرات جندي مصري عثر عليها بعد الحرب.. كنا نعتقد أن عبورنا للقناة فوق الجثث والماء لكنها المعجزة.. حلم الوقوف على الضفة الشرقية يتحقق.. وآخر كلماتي: "يا رب أخيرا تحقق النصر لمصر"
أعد الصحفى الإسرائيلى "أرنون جروس" ملفا بالإذاعة العامة الإسرائيلية عن عبور الجيش المصرى قناة السويس فى حرب أكتوبر، وما بها من قصص إنسانية تحملها مذكرات جندى مصرى وآخر إسرائيلى أثناء الحرب، حيث أشار أرنون إلى أن عبور قناة السويس فى حرب عام 1973 أثار المشاعر لدى الجانبين ولا يزال لاعتباره نقطة تحول تاريخية.
مضيفا أن معظم الناس يميلون إلى تناسى أو تجاهل حقيقة كون حرب عام 1973 شهدت عبورين، كان أولهما عبور القوات المصرية من الضفة الغربية لقناة السويس إلى ضفتها الشرقية ابتداء من السادس من أكتوبر، أما العبور الثانى فقد بدأ بعد عشرة أيام من الأول، أى فى السادس عشر من ذلك الشهر، عندما عبرت القوات الإسرائيلية من سيناء إلى الضفة الغربية من القناة.
وقال: نورد فيما يلى مقطعين من مذكرات شخصية لجنديين، أحدهما مصرى والآخر إسرائيلى، كانا ضمن القوات العسكرية التى عبرت القناة فى تلك الحرب من الجهتين.
مشيرا إلى أن الجندى المصرى انتمى إلى كتيبة مدفعية عبرت القناة يومين بعد بدء الحرب، وكان يكتب يومياته فى كراسة وجدت فى الميدان بعد الحرب فتم ترجمتها إلى العبرية ونشر بعضها فى صحيفة "معاريف" الإسرائيلية عام 1974، أما الجندى الإسرائيلى فكان ينتمى إلى لواء مدرعات اشترك فى الحرب فى القطاع الأوسط من الجبهة وعبر بدوره القناة بتاريخ 20/10/1973، وكتب مذكراته بعد سنين من انتهاء الحرب ولم تنشر، ولسوء الحظ لم نعثر على النسخة العربية الأصلية من يوميات الجندى المصرى فأعيدت ترجمتها إلى العربية من النسخة العبرية التى نشرت فى حينه فى "معاريف" أيضا.
وتقول يوميات الجندى المصرى من على الضفة الشرقية من القناة، سيناء المحررة، الساعة 2:45 من بعد الظهر، عبور القناة و"عودة الروح".
كانت هذه لحظة تاريخية جديرة بالذكر حقا، إنه حلم راودنا جميعا ولم نكن نتصور كيف يتحقق، أعددنا أنفسنا لنعبر القناة على جسر من الجثث وفوق بحر من الدم وتحت سماء من النار، ولكن ما حدث فعلا لا يمكن وصفه؛ نعبر القناة فى وضح النهار بلا طلقة نار واحدة ودون أى إصابة حتى فى طرف أصبع أحد جنودنا! إنها معجزة حقا!
عبرنا القناة بمياهها الزرقاء وحققنا الحلم، كانت مركبتنا المركبة الثالثة فى طابور الكتيبة، وفى الساعة 12 تماما كنا فى منطقة العبور، إنها لحظة تاريخية حقا، الابتهاج والفرح وعدم التصديق كانت مشاعر الجميع، نحن نعبر القناة بلا أى نوع من العرقلة!
هبطت المركبة ببطء نازلة فى المنحدر باتجاه الجسر، وكان ذلك بالضبط فى الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق، وفى الثانية عشرة وثلاث عشرة دقيقة خطت المركبة بنا خطوتها الأولى على أرض سيناء، دخلت عبر قواتنا العظيمة المرابطة على طول القناة وزاد ذلك من معنوياتنا وملأنا اعتزازا وفرحا.
نحيى الجنود الذين سبقونا فى العبور وهم بدورهم يردون التحية فرحين، نهتف ونتبادل التحية وهتافات: "الله أكبر" و"النصر".
أما مذكرات الجندى الإسرائيلى فقالت: وصلنا إلى منطقة قريبة من القناة فى القطاع المخصص للعبور شمالى البحيرات المرة واحتمينا بالسور الترابى الهائل الذى شكل قبل الحرب جزءا من خط بارليف، واجتمعت إلى جانبنا مركبات أخرى تابعة لوحدات مختلفة استعدادا للمرور غربا.
وقفنا وانتظرنا؛ الجسر الخشبى كان ممتدا فوق القناة ولكن لم يمر عليه أحد، الجميع كانوا فى انتظار الأوامر؛ أخيرا جاء أمر التحرك، وكانت الساعة وقتئذ تقترب من الخامسة مساء.
اجتزنا الحاجز الرملى العملاق الذى وقف بيننا وبين القناة فانجلت أمام أعيننا كاملة ومعها الضفة المحاذية وكلها مكللة بالأشجار والنباتات، كانت الحركة بطيئة وكان يحرص على ألا تكون مركبتان على الجسر معا، كنا فى المركبة الثانية أو الثالثة فى الطابور وتحركنا ببطء لئلا نزعزع أساس الجسر.
فى بداية مكوثى على الجسر لم أشعر بأى شيء غير اعتيادى ولكن عندما أصبحت فى وسط القناة تغير العالم من حولى: كانت تلك فترة أصيل رقيقة وهادئة على نحو رائع والكل كان مغموسا بألوان لامعة: المياه، والنبات، ورمال سيناء من ورائى، والسماء الغائمة جزئيا.. كانت لحظة من تلك اللحظات التى يشعر الإنسان فيها أنه لا يطأ الأرض بتاتا وإنما يحلق فوقها كأنه أصبح أخف من الهواء وزنا، وتتحول الألوان من حوله لتصبح أكثر رقة وبريقا واندماجا بعضها ببعض؛ وخلافا للمخاوف التى راودتنا سابقا لم تطلق نار علينا من أى جهة، وساد الجو هدوء غير عادى غطى ضجيج المحركات وصرير أسس الجسر وأصوات الجنود.
وعند تقدمنا نحو الشط الآخر ازداد شعورى حدة حيث لعبت دورها هنا عدة عوامل من أهمها: لقد اعتدنا جميعا منذ وصولنا قناة السويس عام 1967على مشاهدة ضفتها الغربية من بعيد وكانت بالنسبة لنا كالشريط السينمائى الذى لا نستطيع دخوله، أما الآن، فللمرة الأولى فى حياتنا "ندخل الشريط السينمائى"، كانت تلك تجربة مثيرة.
وبعد نحو أسبوعين من العيش فى رمال سيناء وقعت عيوننا على مشاهد أخرى منعشة للنفس: أشجار على ملء النظر، ثم ترع مائية وفيها الطير على أنواعه، وبعبارة أخرى، عالم مختلف تماما من ذلك الذى تركناه وراءنا فى سيناء.
وخلال الأسبوعين السابقين من الحرب عشنا فى جو من الانتظار للخروج من دوامة الهجوم والهجوم المضاد، سمعنا عن الاختراق عبر القناة غربا، والآن أصبحنا نحن أيضا جزءا من هذا التطور الدراماتيكى الجديد مما زادنا قوة وحماسا.
أما العامل الرابع والأشد فظهر بعد عبورنا للقناة حيث شاهدنا على الضفة الغربية طابورا من المركبات كانت تقف على جانب الطريق منتظرة إتمام مرورنا على الجسر كى تستطيع هى المرور عليه شرقا إلى سيناء؛ وقفت على رأس الطابور شاحنة مفتوحة وعلى متنها أسرى حرب مصريون، وبينما كنت لا أزال متأثرا بالتجربة الموصوفة أعلاه أحسست أن شخصا ما ينظر إليَّ بإمعان، التفت وإذا به أحد الأسرى على متن الشاحنة، نظر إلى ونظرت إليه وكأنه ربطنا تيار من التفاهم دونما حاجة إلى كلام، أدرك حالة الابتهاج العظيم التى اكتنفتنى، فى وقت تبين لى شعوره العميق بالمرارة، وفجأة سيطرت عليَّ كليا فكرة لا أدرى حتى هذا اليوم من أين جاءت، أمنى أم منه، فقلت لنفسى: "يا رب، لقد حققنا النصر فى هذه الحرب".