بشاعة الحرب مع الأوهام
منذ وعيت على القراءة، لم أجد في نفسي أي ميل لجماعة الإخوان المسلمين ولا أي جماعة تخلط بين الدين والسياسة في التاريخ، رغم أنني قادم من بيئة بسيطة كانت الجوامع فيها مفتوحة لنا نحن تلاميذ الابتدائي والإعدادي للمذاكرة الجماعية بالليل بعد صلاة العشاء، ولا تغلق أبوابها أبدا، وكان الناس كلهم من حولي بسطاء كادحين، ليس لهم في الدنيا إلا العمل والمسجد والمقهي في أقل الأوقات.
كان ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، ولم يكن هناك تليفزيون بعد، وكذلك في السنوات الأولي للستينيات رغم وجود التليفزيون، لم يكن أهلنا قد تعلموا كثيرا، لكنهم كانوا يعرفون أن الدين هو التسامح، هو المعاملة الطيبة، هو مراعاة الله في كل عمل أو بيع أو شراء، وكان أبي من أكثر الناس إيمانا وتدينا، حتى إنه لم يكن يترك المصحف من يديه في المساء إلا كي ينام، كان الدين يتلخص بهدوء في أن تقيم العبادات ببساطة مادمت قادرا وبلا مغالاة، وأن تكون صادقا في المعاملات.
بس خلاص، ولم تكن هناك أوهام الحرب على الآخر الذي لا يصلي مثلك، ولا يرفع صوته مثلك بالأذان أو الصلاة ولا يسمي حين يبدأ أي شيء – لأنه طبعا لا يقصد – ولا يخاف كل هذا الخوف من الآخرة لأنه ببساطة لا يغش في الدنيا فلماذا إذن ينزعج ثم إن الله غفور رحيم، وحتى بعد أن تقدمت في القراءة والدراسة لتاريخ العالم لم أتعاطف مع أي حركة ترفع شعار الدين لتسيطر على الدنيا.
لسبب بسيط جدا هو أن ما فعلته مصر الحديثة منذ محمد على من فصل للدين عن الدولة كنت أراه أنا حولي، المباني الجميلة التي تجمع بين حضارة البحر المتوسط وحضارتنا، والمدارس الجميلة والمستشفيات والكليات والسينمات والمسارح والطرق والإخلاص في ذلك كله والحفاظ عليه والحريات التي لا تتيح لأحد اختراق حياتك وأفكارك، كانت البلاد من حولنا جميلة، وكنت حين أقرأ في التاريخ عن جماعة الإخوان أندهش لماذا حقا أرادوا العودة بنا إلى الوراء.
إلى العصور الوسطى، وأرى النزاع معهم في مصر من ثلاثينيات القرن الماضي صراعا مع أوهام تلبست عقول هؤلاء الناس وصارت حقائق وهي في الحقيقة مرض نفسي مثلها مثل الأفكار المتسلطة « The Opsessions '» التي تتسلط على الإنسان، فلا يري شيئا أمامه لكنه يراها هي فقط ولا يدرك أنها في عقله وليس لها وجود في الواقع، فينفصل عن الدنيا ويسخط على الجميع، مبررا لنفسه كل أخطائه بأنها أخطاء للآخرين، ويدخل في نزاعات وحروب لا تنتهي إلا به وحيدا في مواجهة الموت النهائي.
هذه الأوهام كانت عبر التاريخ هي المحرك الأساسي لجماعة الإخوان وكل جماعة دينية تعمل بالسياسة في التاريخ، والكارثة أن الإخوان لم يتعظوا من التاريخ، فما إن وصلوا للحكم عن طريق الآخرين من فضلك، حتى تحركت أفكارهم المتسلطة على عقولهم، فلم يروا إلا أنفسهم وأنكروا وجود الآخرين، ودخلوا بنا في حرب قذرة، صرنا نحارب مجانين للأسف حول أشياء لا مكان لها أصلا. وهكذا كانت الأوهام أبشع من الحقائق الدموية وضيعت سنوات من عمر الوطن لكنها في النهاية أضاعتهم وتضيع أعمارهم الآن، ولن يبقى إلا الذكرى المضحكة!
ibrahimabdelmeguid@hotmail.com