«الأزمة السياسية صداع في رأس التوانسة».. الصراع يشتد بين الأحزاب.. و«النهضة» و«نداء تونس» يحاولان رأب الصدع الداخلي..أنباء عن إقصاء «الغنوشي» من المشهد التونسي.
لم تحمل الندوة الصحفية لحركة النهضة الحاكمة أي جديد ما عدا مفاجأة من العيار الثقيل أربكت حسابات وسائل الإعلام المحلية والدولية الحاضرة، فقد غاب زعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي ولم يقدم "نوابه" أي تفسير مقنع لذلك، حيث تداول الصحفيون ما راج من أخبار حول إزاحته من منصبه أو عزله بسبب تصرفاته وتصريحاته الأخيرة التي عارضها شباب الحركة واعتبروها لا تلزمه إلا هو وعبروا عن ذلك صراحة في الصحف.
كان من الصعب أن يتولى أحد قياديي النهضة تعويض زعيمها بمفرده فحضر كل من رفيق عبد السلام والعجمي الوريمي عضوا المكتب التنفيذي بمعية عبد الحميد الجلاصي نائب رئيس الحركة، "ليتعاونوا" على مليء مكان الغنوشي الذي هيمنت صورته على كل ردهات الندوة الصحفية الاثنين التي سجلت حضورًا إعلاميًا غير مسبوق باعتبار أن الجميع أتى ليلقي سؤالًا على زعيم النهضة أو ممنيًا النفس بقنص حوار سريع معه أو التقاط "سكوب" لا ينافسه فيه زميل أو زميلة.
كل الحسابات سقطت في الماء بعد أن اكتفى الثلاثي باستعراض المقاربة النهضوية لحلحلة الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ أكثر من شهرين، والتي سعى الفرقاء السياسيون إلى وضع حد لها كل على طريقته وكل وفق ما يراه صالحا للبلاد ولا ينسجم بالضرورة مع الطرف المقابل.
من هنا كانت هوة الخلاف بين الحكومة والمعارضة تأخذ في الاتساع يومًا بعد آخر إلى أن بلغت حدها الأقصى بإعلان حكومة الترويكا بتحفظها على بعض النقاط الواردة في خارطة طريق الرباعي الراعي للحوار المنبثقة عن مبادرة اتحاد الشغل لحل الأزمة.
أزمة سوف تكون لها تداعيات خطيرة إذا ما تواصلت إلى ما لا نهاية خاصة أمام تدهور المؤشرات الاقتصادية التي لم تعد تخفى على أحد بعد صيحة الفزع التي أطلقها محافظ البنك المركزي في وجه القادة السياسيين داخل السلطة وخارجها داعيًا إياهم إلى التعجيل بالتوافق بشأن حل يعيد الأمور إلى نصابها.
وبالعودة إلى الندوة الصحفية التي أعدت طبخ القديم في أوانٍ جديدة لتقدمه في صحن أجمل وأرقى، فإن الحاضرين والمتتبعين للنقل التلفزي المباشر، ظلوا حائرين بين تفسيرين كلاهما قريب إلى المنطق حول حقيقة غياب الزعيم راشد الغنوشي عن الندوة الصحفية والحال أن مكتبه الإعلامي أرسل إعلانين اثنين في ظرف ساعات قليلة أكد من خلالهما إشراف الشيخ على اللقاء الإعلامي.
وكان نائب الغنوشي في رئاسة الحركة رجع غياب الشيخ إلى ارتباطه بالتزامات سياسية أخرى منعته من الحضور، مشددا على أنهم قد نسقوا معه قبل المجيء حول مضمون الندوة الصحفية.
هذا التعليل وإن بدا منطقيًا، إلا أن تصريحات سابقة لنائبه الآخر، عبد الفتاح مورو، المشهور بانفتاحه أكد من خلالها أن الغنوشي سيتم عزله صلب الحركة استنادًا إلى ما لاحظه مورو من تصلب وتطرف لدى شباب النهضة الثائر على رئيسه بسبب مواقفه ولقاءاته بالباجي قائد السبسي العدو اللدود للنهضاويين؛ لأنه يمثل لهم حزب التجمع في أبشع صورة ويعيد إلى أذهانهم عذابات السجون والنفي والتجويع التي قاست منها آلاف العائلات النهضاوية إبان حكم بورقيبة وبن على، الذين عمل معها السبسي.
مصدر من داخل النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم، أشارت إلى أن أصدقاء الغنوشي نصحوه بالاكتفاء بالظهور في حالات الوفاق والحلول والابتعاد قدر المستطاع عن أوقات التوتر والاحتقان والتصعيد بما يخدم صورته ويحفظ مكانته لدى الرأي العام المحلي والعالمي خاصة بعد موجة الغضب الافتراضي التي شنها عليه خصومه اليساريون.
وبالرغم من التكتم الشديد الذي يصاحب غياب زعيم النهضة عن الفضاءات الإعلامية منذ أسبوع تقريبا، ماعدا استقباله سفير دولة قطر وعميد السلك الديبلوماسي الذي جاءه مودعًا إثر انتهاء مهامه بتونس، فإن الغنوشي غاب بالفعل عن الأنظار وتوارى ليفسح المجال لوجوه جديدة- قديمة احتلت المنابر وأضحت تقود المفاوضات إلى جانبه وتتزعم الردود وإعلان المواقف.
المتتبعون للشأن السسياسي انقسموا إلى قسمين، شق يرى أنها مناورة سياسية جديدة تقدم عليها النهضة الخبيرة في أحكام صنع المناورات، الهدف من ورائها تخفيف الضغط الإعلامي على رئيس الحركة وتغيير اتجاه الرأي العام المركز على كل كلمة ينطقها الشيخ، وبالتالي فالنهضة تلعب على عدة حبال في وقت واحد بعد أن برزت صلبها وجوه جديدة أكثر تصلبًا من الغنوشي "المتفتح" وفق رأيها.
الشق الثاني يعتبر أن ما صرح به عبد الفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة، صحيح مائة بالمائة، والدليل على ذلك الغياب الكامل للشيخ عن وسائل الإعلام المرئية بالخصوص، وتصدر وزير الصحة وعضو مجلس الشورى، أعلى سلطة في الحركة، المنابر الحوارية وحتى المفاوضات التي كان في كل مرة يعبر عن رأي أشد تطرفًا من الغنوشي في حضوره مما يقيم الدليل على أن آراء الشيخ هي بالفعل لا تلزمه إلا هو... وإلا فكيف نفسر أن رئيس حزب لا يعبر عن رأي حزبه وهو الأجدر بذلك؟
والثابت أن المناورات التي أقدمت على حبكها حركة النهضة قد بدأت تلعب ضدها من الداخل، حيث برزت للعيان انشقاقات لا مجال لإخفائها فكانت الأزمة السياسية بحق أزمة انفجار داخلي بالنسبة إلى كل الأحزاب الكبرى الفاعلة في المشهد السياسي التونسي.
فلئن استطاع نسبيًا الباجي قائد السبسي رئيس حركة "نداء تونس" ورئيس الوزراء الأسبق، لملمة الخلافات الشديدة التي كادت تعصف بحزبه الوليد، بسبب تباين وجهات نظر قيادييه وانفراد السبسي بقرارات تلزم الحركة ككل من ذلك إصراره على مد يده إلى حركة النهضة والتقاء زعيمها مرات متتالية دون استشارة قياديي الحركة، فإن الملاحظ أن العاصفة صلب نداء تونس هدأت قليلًا وليس نهائيًا.
ومما لا شك فيه أن تيار اليسار وتيار اليمين الذين يشكلان حركة "نداء تونس" في صراع أيديولوجي إستراتيجي لا ينتهي، يتنافسان ويتنازعان السبسي، ويحاولان التأثير على قراراته، فإن دعوة رئيس الحركة لأبرز قيادييه "المشاغبين" إلى الاستقالة دون أن يسميهم، سيعود بالوبال على الحركة ككل وسيزيد بؤرة النزاع اتساعا بين المنتمين للحزب الواحد، مما يؤشر على استمرار الانقسام المرشح للتعمق أكثر فأكثر.
أما الجبهة الشعبية والحزب الجمهوري، وباقي الأحزاب "الصغيرة" من حيث قاعدتها الجماهيرية، فهي تعاني مشاكل داخلية يمكن وصفها بالمصيرية التي يسعى من خلالها القياديون إلى التموقع في مشهد سياسي يؤذن باقصاء الضعيف ودعم القوى.. ففي نضالهم من أجل نحت مكانة على الخارطة السياسية اليوم، يتناسى قياديو هده الأحزاب أن وزنهم لا يتعدى وزن الريشة في ميزان السياسة، ولا يتوانون عن إطلاق النار على بعضهم البعض في حرب كلامية يتضرر منها الفاعل كما المفعول به، إن صح التعبير أو الظالم والمظلوم، في العرف القضائي، أو الخصم والمنافس، في المعاجم السياسية.
والواضح أن كل الأحزاب السياسية لم تستطع النفاذ بجلها أو لم تتمكن من ضمان أسباب وحدتها وهي تعيش توترا كبيرا داخليا وخارجيا برز من خلال اختلاف وجهات النظر في الحزب الواحد بما ينبئ بتصدع ضرب كل الأطياف السياسية، وهو أمر ليس بالغريب في العرف السياسي وخاصة في ظروف الأزمات التي تحف بالديمقراطيات الناشئة، إلا أنها تبدو ذات تداعيات سلبية في المشهد المحلي.
ومهما تباينت تحاليل المراقبين ومهما تعددت محاولات التبرير من طرف قياديي الأحزاب الفاعلة في الساحة، فإن الرأي العام الذي خاب ظنه في النخبة السياسية، التي قال عنها حمادي الجبالي رئيس الحكومة الأسبق، مقولته الشهيرة "نكبتنا في نخبتنا" سوف تواجه صعوبات جمة للملمة شملها واعدة ترتيب البيت من الداخل والحال أن موعد الاستحقاق الانتخابي المصيري بات على الأبواب، ولا وقت لدى قياداتها لرأب الصدع أمام عمق الخلافات صلب الحزب الواحد.