قصة قصيرة:"طيفها".. بقلم "يوسف الرفاعى"
كم غلبنى الصبر حين أذكرها..
كلما لاحت فى عقلى.. أطفأت مصباحى الأكثر وهجا.. وأسندت جنبى حزينا إلى جدار فى عزلتى المقدسة. هل كلما غابت أحدثت الأثر نفسه؟
تنتابنى لحظات، أحن فيها لعذابات الذكرى. لست "ماسوكيا"، لكنها طبيعتى.. فذكراها من نوع يداوى الجرح.. وخير الجروح ما تنكأه لتعالجه. وكم نكأت جرح فراقها ولم يبرأ.
عزلتى مظلمة.. لكننى أعشقها .. فيها، أستطيع أن أبكى.. أطرب لتنهداتى.. وفى الظلام أيضا تتبعثر ملامحى.. وربما تتبدل كليا.. أصبحت مؤخرا كـ "المستذأب".. حين يعيش أسطورته مع اكتمال القمر.
أعرف جيدا كيف أستدعى طيفها.. أطفئ لها المصباح كى تأتى.. أجلس فى انتظارها.. وكلما أمعنت فى الظلام، لمَعَ طيف أمى، باعثا نفسه من نقطة مجهولة بذاكرتى، تطل رخامية كتمثال لإلهة إغريقية.. ملامحها يكسوها هدوء سنا قمر بارد، شفافة لامعة.
لحلقات دخان سيجارتى فى الظلام، غواية رقصات "سالومى" وهى تطلب جزّ رقبة النبى "يحيى".
تركت أجنحتى ترفرف فى ظلام قدسى.. تطوف حول طيفها كعصفور، هدّه التعب، مشتاق إلى فرع وارف. طيفى وطيفها فى الظلام كائنين من قدَّة نورية.. أرخيت لطيفى عقاله.. تركته يتشتت فى سماء عزلتى.. حام حول طيفها مبعثرا كحطام حول محور إعصار.. وعاد بعد لحظة يتكثف، وعند قدميها المُشعّتين جثوت خاشعا.
وهجها الليزرى أشعل طيفى ضوءا حين لامست قدميها.
فى عزلتى ليس لأى صوت حظوة.. إلا صوت حضورها. وحين لامست روحى أنامل روحها، تركت لها العنان كى تنتابنى، كوحى بلا صلصلة، ولا همس وسواس. دخلتنى بهدوء وبقيت بداخلى ما شاءت.. لا يشعر بها إلاّى.. وبعد ارتعاشة أطلت من عينى.. تسمع وتشعر وتتألم عبر جسدى.. تلبستنى روحها، فى أبدية تستحقها.. وحين غادرتنى عاودتنى الوحشة.
فى خلوتى لا يشرق إلاّها.. أهفو للمساتها السحرية، لمسات كدمعات مطر خجولة، تغمر مسامى برحمة، تشعل فىّ دفئا يذيب بَرَدَ الأرق. فى لحظة من الألق، جثا طيفى عند قدميها، تركت لريشتى تهمس فوق ورقة من عطر، وفى حضرتها أكتب ولا أنطق: اشتقت إليك يا أم.
قالت كما لو أنها قرأت ما كتبته فى الظلام: هل يسعدك عيشى عند ربى فى رغد؟
هتفت ريشتى المسحورة: هذا مطلبى ورجائى
بنعومة يتقنها ملاك، جلست أمامى، على رأسى ربتت كعادتها وهمست: فى كنف ربى أحيا سعيدة.
بكيت..
لامست خدى، قالت: حين تشتاق إلىّ تجدنى .. فهل يُرضيك؟
هتفت ريشتى: لا يكفينى.
لمعت عينا طيفها تغمرنى بنظرة رحيمة: دنياكم كالتفاتة جفن لا تكفى ولا تغنى.
تسمرت ريشتى لحظة.. ثم عادت لتكتب: حزين أنا.
سألت: وَلِمَ ؟
همست: أنا لا أراك إلا فى الظلام.
قالت: لا تتعجل الأيام .. ظلامكم نور.
سألت: وكيف عالمكم.
قالت: من نور هو.
شردت لحظة، وهمَّت هى بالرحيل.
تخليت عن خشوعى.. وعاودنى القلق.
مع كل التفاتة جفن كانت تتصاعد كدخان سيجارتى.
سألتها: متى العودة؟
أومأت بابتسامة فرعونية السحر.. قالت: يكفى أن تشتاق إلىّ لتجدنى.
أطرقت برأسى عاجزا عن كل شىء إلا الأمل.
حين استفقت كان ظلامى القدسى خاليا من عطرها وطيفها.
أضأت مصباحى، أفقت ودموعى تبلل أوراقى. أطراف أناملى كانت تلامس لوحة لها لأم ترضع وليدها. أدهشنى رؤية كلمات مبعثرة على ورقتى.. حروف نورية من حوارنا القدسى. ترى من كتبها؟ للحظات هتف فى أذنى هاتف: روحها فعلت.
سألتنى (ولم أجب): هل فعلتها وكتبت لى رسالة؟
أمضيت بقية يومى أحاول ترتيب حروفها، وما زلت أحاول.