رئيس التحرير
عصام كامل

فى ذكراها.. عن صاحبة أجمل قصة حب فى حياتى!


عرفتني قبل أن أعرفها.. كانت تتابعني كل يوم دون أن أدري.. لم أعي ولم أفهم اهتمامها بي.. إلا أنه وبعد فترة طويلة بدأت أشعر بها وأفهمها.. عرفت من هي.. كان منطقيا لفرط جمالها أن أبادلها اهتماما باهتمام.. وارتباطا بارتباط.. فحبا بحب.. يوما بعد يوم .. نضجت العلاقة بيننا وصارت متبادلة في كل شىء.. رغم أن مشاعرها ومن جانبها كانت متقدمة وكبيرة.. متدفقة وجارفة.. ربما ساهم الاقتراب اليومي وشبه اليومي علي ذلك.. تحولت العلاقة إلي ضفيرة حقيقية.. تقلق إن قلقت.. وتغضب إن غضبت.. وتفرح إن فرحت.. كادت أن تطير فرحا عندما علمت بنجاحي بتفوق بقسم العلوم السياسية بجامعة أسيوط.. رغم علمها أنني سأتركها فور حصولي علي الشهادة لرغبتي في الالتحاق بالجيش في أول دفعة.. لا وقت لإضاعته.. لم يكن لنا نصيب في الالتحاق بالتدريس الجامعي.. ربما لو رضيت الأجهزة عنا لتغير الأمر..لا حل إذن إلا باستكمال الدراسات العليا.. وهذا لا يتم إلا بالقاهرة.. وهذا أيضا لا يتم إلا بالانتهاء من الواجب الوطني العسكري.. وقد كان..


كان الالتحاق بالجيش مؤلما لها ولي.. فلأول مرة أغيب عنها كل هذه الأيام.. لكن.. الحل يبدو في الأفق.. الدكتور أحمد ثابت أستاذ العلوم السياسية رحمه الله وكان قياديا ناصريا رائعا يتوسط لي.. اللواء محمود خليل الأستاذ البارز في أكاديمية ناصر يريد من يساعده في أبحاثه عن أزمة المياه في الشرق الأوسط.. وأبلغني أنه رشحني له وأنه سيتصرف وسينقلني.. كان اللواء خليل عقيدا في حرب أكتوبر وفقد بصره في إصابة بالغة فيها وهو قائد للواء مدرعات.. ورقيّ استثنائيا.. وحصل علي أعلي الأوسمة وأصبح محل حب وتقدير كل أبناء القوات المسلحة في كل مكان وكلمته لها احترامها.. كان التدين الحقيقي عنوان الرجل في كل سلوكه.. ومعه قدمنا ما أرضاه ولذا لم يتوقف كرمه معنا عند ذلك.. وإنما وعندما صارحته بمرض حبيبتي الخطير والذي تدهورت بسببه حالتها فجأة.. قام بنقلي إلي هناك.. إلي أسيوط.. لأكون قريبا منها وعلي بعد كيلومترات من مدينتنا الجميلة.. مدينة المال والتجارة والتصوف.. أبوتيج.. التي فشل أطباؤها في البحث عن حل.. وفشل أطباء جامعة أسيوط في العلاج.. وأصبح الذهاب من جديد إلي أطباء القاهرة والإسكندرية موجعا لجسد موجوع.. ولقلب طاهر يتألم.. ووداع خجول في عيون الزائرين.. ورغم أن المرض قديم ومنذ سنوات طويلة.. إلا أنه تضاعف فجأة.. ورغم تضاعفه فجأه.. إلا أن شبح الرحيل لم يكن أبدا متوقعا.. كان كابوسا نرفضه كلما جاء الشيطان به.. نزيح وجهنا إلي الناحية الأخري وكأننا لا نريد أن نصدق.. الموت حق.. لكنه أبغض الحلال إلي الإنسان.. هل سترحل ؟ لا.. لن ترحل.. لا يمكن.. لا.. بل سترحل.. الموت يطل في كل لحظة.. في كل لفتة.. في كل حبة دواء.. في عيون الأطباء.. وفي همساتهم.. أشكر اللواء خليل في كل اتصال.. فقد أبقاني معها أيامها الأخيرة.. أوعده بالعودة إلي القاهرة فلا مستقبل إلا بها لكن بعد الاطمئنان عليها.. هي المستقبل الآن.. ولا شىء غيرها.. وأراه يتسرب مني.. نعم يتسرب.. يوما بعد يوم ولحظة بعد لحظة.. حبيبة القلب والعمر وأنا سرها.. وكل أسرارها عندي.. عندي همساتها.. تبكي أمامي.. توصيني بمستقبلي.. وبغيري.. وتنهمر دموع الوداع منها.. ومني وأخفيها.. رجفة غير طبيعية في القلب يقول لي إن شيئا قد جري هناك.. ولا أعرف كيف قطعت السيارة الطريق.. ولا أعرف كيف كنت في جنازتها.. كان الكل يقول إنني سألحق بها من قسوة الغياب ومرارته.. أقسمت أن أزور قبرها يوميا.. وحتي الأربعين.. أخالف لوائح الجيش.. أغادر سرا وهربا.. من الأبواب أو من الأسوار سأزورها يعني سأزورها.. أذهب كل يوم وأعود.. لن يمنعني أحد.. ولن يوقفني أحد.. ولم يراني أحد.. ولم يوقفني أحد.. أقرأ الفاتحة علي روحها.. وأبقي معها ما أبقي.. واليوم.. وفي ذكري رحيلها الواحد والعشرين.. سلام علي روحك.. يا أمي!
الجريدة الرسمية