رئيس التحرير
عصام كامل

ليبيا تعاني بعد القذافي.. مشاكل سياسية وأمنية ومخاوف من التقسيم.. إخوان ليبيا مزقوا صف الحكومة.. والجيران أكبر المتضررين.. رئيس مخابرات النظام السابق تنبأ بسيناريو الفوضى

الأحداث السياسية
الأحداث السياسية فى ليبيا - أرشيفية

كشف جيف دي. بورتر رئيس "شركة استشارات مخاطر شمال أفريقيا"، المتخصصة في المخاطر السياسية والأمنية في قطاع النفط والغاز في شمال أفريقيا، عن تعرض ليبيا للخطر في مرحلة ما بعد القذافي، وجاء ذلك في معرض تحليله السياسي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.


ويقول جيف دي. بورتر إنه مضى عام واحد على مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة آخرين من أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي، وليبيا ترزح تحت وطأة العديد من التوترات، بالإضافة إلى المشاكل السياسية والأمنية غير المستقرة التي أضعفت الدولة الليبية، وتعاني البلاد خللا حادا في إنتاج النفط وصادراته، مما حرمها من إيرادات مالية يصعب تعويضها، ومن المحتمل أن يكون هذا المزيج كارثيا، ليس فقط لليبيا لكن لجيرانها أيضًا.

وأكد بورتر أن ليبيا تعاني فشلا في الحكم والإدارة، فالظروف التي تمر بها ليبيا حاليا هي نتيجة لديناميكيات متعددة أهمها افتقارها شبه الكامل للحكم الرشيد، فـ"المؤتمر الوطني العام" كيان به عيوب هيكلية، إذ لم يكن الغرض منه مطلقًا أن يصبح برلمانًا بل كان من المفترض أن يعمل فقط كمجلس لصياغة الدستور، أو في أحسن الأحوال الهيئة التي من شأنها أن تعين مثل هذا المجلس، ونتيجة لذلك، فهو الآن كيان قائم دون هدف واضح أو مسئوليات محددة.

ويرى بورتر أن الخليط من التكتلات الحزبية والمرشحين المستقلين داخل "المؤتمر الوطني العام" هو أيضًا إحدى المسائل المثيرة للجدل، فحتى لو قامت جميع الأحزاب السياسية الممثلة بتكوين ائتلاف، فإنها مع ذلك ستبقى دون أغلبية وسينبغي عليها أن تستميل أعضاء مستقلين في كل مرة تريد فيها تمرير أي تشريع أو قانون، ومما يعقد المشكلة بصورة أكثر أنه ليس لدى أي من أعضاء "المؤتمر الوطني العام" خبرة سابقة في التشريع، كما أن بعضهم كانوا منشقين سياسيين؛ وإن ذلك ليس بديلًا عن الحاجة إلى سن قوانين ولوائح.

وأشار بورتر إلى أنه ليس بيد "المؤتمر الوطني العام" مقاليد الحكم، وأن القوانين التي قام بتمريرها لا يتم تنفيذها إلا على نحو متقطع، مثل قانون "العزل السياسي" المعروف والمثير للجدل بشكل كبير، والذي كان من المتصور أن يطهر الحكومة من أتباع النظام السابق؛ ولم يجر حتى الآن تفعيل هذا القانون.

وأضاف بورتر أن الجدل الدائر حول الدور السياسي للإسلاميين ساهم أيضًا في تمزيق صف الحكومة، فلا يجد "حزب العدالة والبناء" المنتمي لـ جماعة "الإخوان المسلمين" غضاضة وحرجا في انتقاده لرئيس الوزراء الأكثر علمانية على زيدان، رغم أن ذلك لم يصل إلى حد المطالبة باستقالته أو تنظيم طرح تصويت بحجب الثقة عن "المؤتمر الوطني العام"، مؤكدًا أنه ربما يرى رئيس "حزب العدالة والبناء" محمد صوان أن انتقاد حكومة زيدان من الخارج هو أيسر وأسهل من تولي مقاليد الحكم، لاسيما أن الحزب سيرث نفس الاختلال الوظيفي والهيكلي الذي يعانيه "المؤتمر الوطني العام" والذي أضعف حكومة زيدان.

وأشار بورتر إلى أن الانتقادات التي وجهها "حزب العدالة والبناء" للحكومة تكبل يديها، الأمر الذي أجبر زيدان و"المؤتمر الوطني العام" على تكريس المزيد من الوقت للشئون والآراء السياسية أكثر من الوقت المكرس لسياستهم في الحكم.

أما عن صعود الفيدرالية فيقول بورتر إن " الحكومة الليبية لو استطاعت ترسيخ أقدامها في السلطة بشكل سريع، فستواجه ليبيا تحديات صعبة تخص الفيدرالية والتي كانت إحدى الأفكار التي تولدت من رحم الثورة، ولكنها نضجت في جزء كبير منها نظرًا للقصور والخلل من قبل زيدان و"المؤتمر الوطني العام".

ويرى بورتر أن مناطق "برقة وفزان وجبل نفوسة" التي عانت الإهمال إبان حكم معمر القذافي فإن الحكومة المركزية ملزمة بتوجيه موارد إضافية إليها من أجل تصحيح أخطاء الماضي، وما زالت هذه الأقاليم مستمرة في فقد ثقتها العميقة بحكومة طرابلس وأصبحت أقل اقتناعًا بأنها ستحمي مصالح هذه المناطق.

ونتيجة لذلك، تشتد وطأة التوترات الفيدرالية مع إعلان برقة وفزان عن استقلال إقليمهما عن الحكومة المركزية، فبرقة تمتلك تحالفًا قويا ومستقلا عن الميليشيات، كما أن زعماء مجموعات قبلية وعرقية في فزان قد عبروا عن دعمهم الصريح لأي مبادرة جديدة خاصة بالاستقلال الذاتي، بادعائهم أنهم فقدوا الصبر مع طرابلس، وكلما كان زيدان و"المؤتمر الوطني العام" أقل قدرة وكفاءة على الحكم، كلما زادت مثل هذه النزعات.

وأضاف بورتر أن مما يجعل الأمور أكثر سوءًا، هو ما تواجهه الحكومة المركزية من عجز في الإيرادات، فبعد أن أدى زيدان اليمين الدستورية عاد إنتاج النفط الليبي بشكل سريع في عام 2012، وظل في ذلك العام وفي الأشهر الأولى من عام 2013 في مستويات ما قبل الحرب. ومع ذلك رأت العديد من الدوائر مؤخرًا أن قطاع النفط والغاز هو الخاصرة الرخوة للحكومة الليبية، فمن خلال استهداف مناطق إنتاج وتصدير النفط، استطاعت هذه الجماعات ممارسة الضغوط على الحكومة التي لم تكن على قدر المسئولية مع حجم هذه الجماعات أو في التعاطي مع فداحة ما قدمته من شكاوى. وأصبحت الاحتجاجات والإجراءات العمالية والاعتصامات وقطع الطرق أكثر شيوعًا خلال الربيع الأخير وأوائل الصيف.

وبحلول يوليو 2013 وصل التأثير المتراكم لهذه الأحداث إلى مستوى الأزمة، في الوقت الذي انخفضت فيه صادرات النفط من 1.3 مليون برميل يوميا إلى أقل من 200.000 برميل- ووفقًا لـ "مؤسسة النفط الوطنية" في ليبيا- فإن هذه الانقطاعات قد كلفت البلاد خسارة تقدر بخمسة مليارات دولار من الإيرادات، كما أن إنتاج النفط عانى منذ ذلك الحين بعض المعوقات المستمرة.

وتتنوع أسباب هذه الانقطاعات من مخاوف مادية (المحتجون الذين يطالبون بتوفير وظائف لهم) إلى أجندات سياسية (المحتجون الذين يمارسون ضغوطًا على طرابلس للإذعان لمطالب الفيدراليين)، وفي ضوء تباين الأسباب، تبذل الحكومة جهدًا كبيرًا لصياغة استجابة سياسية متسقة من شأنها العمل على استعادة قطاع إنتاج النفط والغاز لعافيته، فلو أذعنت طرابلس واستجابت إلى أي مجموعة واحدة من المطالب، فربما قد تكون مضطرة للإذعان إلى غيرها من المطالب المتعددة، ولا تفعل الحكومة شيئًا يذكر أكثر من الحديث عن المشكلة، وحرمان الدولة من المزيد من العائدات.

أما الشواغل الأمنية فيقول عنها بورتر "إنه بالإضافة إلى المساس بتطلعات الشعب الليبي نحو الديمقراطية والرخاء الاقتصادي، تركت إخفاقات الحكومة خلال العام الماضي مساحة أكبر للجماعات الجهادية للقيام بسلسلة من العمليات، بدءًا من مأساة بنغازي خلال العام الماضي وإلى أزمة الرهائن في "إن أميناس" على طول الحدود الجزائرية في يناير هذا العام، ولا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن مثل هذه الجماعات قد انسحبت من ليبيا، فهناك العديد من الأسباب التي تدفعنا للاعتقاد أنهم سوف يزيدون من ترسيخ أنفسهم كلما أصبحت البلاد غير مستقرة على نحو متزايد".

ويتردد صدى العواقب المحتملة لانهيار الدولة الليبية إلى خارج حدود البلاد، وتحملت مالي وطأة الأسلحة والمقاتلين المتدفقين من ليبيا، الأمر الذي أدى إلى احتياج البلاد إلى تدخل عسكري فرنسي لاستعادة السيطرة على أراضيها في أوائل هذا العام، وكان وقد سبق أن اضطرت الجزائر إلى التعامل مع المأساة في هجوم إن أميناس؛ فإذا انحدرت ليبيا إلى المزيد من الفوضى، ستكون الحكومة مضطرة لمضاعفة جهودها لمنع وقوع أية هجمات إضافية.

ويقول بورتر "في شرق تونس، تكافح السلطات لاحتواء كتيبة "عقبة بن نافع"، وهي منظمة جهادية مرتبطة بـ تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وليس هناك شك بأنها استفادت من الحدود التي يسهل اختراقها في ليبيا ومن الأسلحة الوفيرة. وعلى نحو مماثل، من الصعب على مصر أن ترحب بأي إمكانية لقيام منطقة شاسعة تفتقر إلى حد كبير إلى أي شكل من أشكال الدولة تنشأ على امتداد حدودها الغربية".

وأشار بورتر إلى أن مجموعة من المراقبين الليبيين وقعت مؤخرًا لبعضهم مصالح سياسية أو مهنية في استعادة الاستقرار إلى البلاد - على خطاب مفتوح أرسلوه إلى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وفي ذلك الخطاب دعوا واشنطن إلى توسيع انخراطها في ليبيا، بما في ذلك دعم عملية الانتقال السياسي والإصلاح الأمني والتنمية الاقتصادية، كما قالوا أيضًا إن الثروة النفطية التي تنعم بها البلاد أدت إلى تجنب الحاجة إلى الدعم المالي الهائل، وإن ليبيا ديمقراطية ستكون حصنًا ضد عدم الاستقرار في المنطقة.

وأكد بورتر أنه قد تكون هذه الجهود قليلة ومتأخرة جدا، فالعديد من الجهات ترى "المؤتمر الوطني العام" منعدم الأهلية، وأن زيدان قد فقد الشرعية الشعبية، وعائدات النفط تستمر في الهبوط.

وكان رئيس المخابرات السابق موسى كوسا قد حذر بعد فترة وجيزة من انشقاقه عن نظام القذافي في عام 2011 من أن تصبح ليبيا مثل الصومال، إلا أن تلك التصريحات نالت رفض العديد من الجهات التي وصفتها بأنها بعيدة الحدوث ومستحيلة - وهو بمثابة سيناريو قبيح رسمه شخص أُجبر على التخلي عن نظام لفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن الأحداث أثبتت ما توقعه كوسا ففي الواقع بدأت ليبيا في الانهيار والتمزق على امتداد الخطوط الإقليمية والأيديولوجية، وبدلًا من أن تكون إيرادات الثروة الهيدروكربونية (النفط والغاز) الشيء الذي يجلب التماسك للبلاد، أصبحت أداة لتمزيقها.
الجريدة الرسمية