كارثة قطار البدرشين
قد يكون من الصعب اختيار عناوين لمثل هذه الأحداث، لأن الحدث " كارثى"، ومن ثم فلا يوجد غير تلك الكلمة الصادمة وهى الكارثة لتصير عنوانا لسيل الدماء الجارف، وإزهاق أرواح الأبرياء، لا نقول بيد الإهمال ولكن بفعل أيادٍ عديدة وتفعيل روح التسيب وعدم الالتزام الأخلاقى وتلك الأنانية الجارفة والحادة التى جعلت من شعب مصر مسخا مشوها لم نعد نعرفه..
لقد كانت الثورة بمثابة كاشف لتلك الترسبات والتراكمات النفسية السلبية داخل الشخصية المصيرية والتى جعلت منها شيئا غريبا لم نعد نعرفه، ذلك المصرى فى أى موقع من مواقعه كان له العديد من السمات والخصائص التى أعتقد أنها قد تاهت وبهتت الآن.. أولها "العطاء"، وليس فقط العطاء المادى المتمثل فى الكرم ولكن العطاء بمعناه الشامل والمطلق والبذل لأنه كان يضحى بحياته من أجل الآخرين، وكان لا يهدأ له بال إذا ما كان جاره أو صديق له فى مأزق، ويمكن أن يتحمل هو العبء على كاهله أو يدخل فى ورطة لكى ما ينقذ زميله المصرى المعروف عنه الحياء والقيم الأخلاقية الرائعة التى كانت تميزه من غيره وحبه للعمل الذى هو جزء من حبه الأعظم والأكبر، أى حب "مصر"، التى يتغنى بها وفى سبيلها يضحى بالنفيس والغالى، وإلا لما صنع هذه الانتصارات العظيمة وواجه هذه التحديات الكبيرة التى كان آخرها حرب (1973)، تلك الملحمة الرائعة والتى رغم ظروف الحرب والهزيمة لم نكن نسمع عن مثل هذه الكوارث والأحداث الدامية، ولكن للأسف.. كان هناك جهد وعمل رائع هو كان سند الجبهة فى الصمود أمام العدو، وهو الذى كان بمثابة الملهم لهم لكى يخوضوا هذه المعارك التاريخية المعجزية..
فلاحو مصر "مسلموها وأقباطها" هم أبناء ذلك الشعب الذى صنع هذه الإنجازات العظيمة، بداية من السد العالى وحرب (1956) وتحمل هزيمة (1967) والتى جعل منها انطلاقة لتحقيق النصر ولذلك قد كان متوقعا أن يأتى بعد ثورة يناير تلك الثورة العظيمة التى أطاحت بنظام سياسى فاسد وحكم ديكتاتورى، أن تكون باكورة للإنجاز وأن تكون الخطوة الأولى على طريق نهضة مصر وعودة الوعى والروح للشعب المصرى..
ولكن فيما يبدو أن نظام القيم المصرى قد تآكل على نحو كبير بعد فترة الانفتاح الاقتصادى وتهاوت قيمه الرائعة التى كانت تحكم سلوك الشعب المصرى والتى كانت تضبط إيقاعه ليصبح على ذلك النحو من القوة والإبداعية، لقد كانت التحديات هى دائماً الملهم للشعب المصرى فى تحقيق إنجازاته بداية من تحدى فيضان النيل فى زمن الفراعنة، وكيف أن ذلك المجتمع النهرى قد استطاع من خلال تحدى الفيضان أن يكبح جماح ذلك النهر ويقيم أول حضارة له على ضفاف النهر، كانت التحديات هى مصدر إلهامه وتفجير طاقات الإبداع فيه، ولكن ما حدث بعد ثورة يناير قد كان العكس، ما تم.. لكن التحديات التى برزت فى أعقاب الثورة مثل الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتى لا تعد وليدة الثورة ولكنها "موروث قديم" من النظام السابق كان من المفترض أن تبرز حلول وآليات وأنماط سلوكية جديدة لمواجهتها من شأنها أن تخرج بمصر من أزمتها وأن تضعها على مصاف الدول الآخذة فى النمو تليق بمكانتها، ولكن ما حدث كان شيئا غريبا لقد استبدلت فضيلة العطاء والبذل بالأخذ والمطالبات الشرهة وتطبيق ذل المبدأ وهو الحصاد من حيث لا زرع.. وبدلا من العمل والعطاء والاعتناء والابتكار والتجديد رأينا التسيب والإهمال واللامبالاة فى أوضع صورة وعلى نحو لم نعهده من قبل، كان المفروض بعد الثورة بعدة شهور أن تستتب الأمور وتبدأ عملية الإنتاج فى الدورات وفى تحريك النشاط الاقتصادى وتبدأ قائمة الإنجازات.. ولكن ما حدث قد كان العكس، رأينا كافة صور التسيب واللامبالاة والتى عبرت عنها وجسدتها تلك الكوارث المتوالية والنكبات والتى نحاول أن نضع تبعتها على الحكومة وحددت أى تلك الوزارات المؤقتة التى تقرأ الملفات وعندما تبدأ فيها تكون قد قامت عليها وزارات أخرى فى ظل عجز فى الموازنة كبير، ومطالب فئوية لاسقف لها وتسيب فى الأداء.. الكل أصبح يركن على الآخر ولا يهتم بما يقوم به من عمل، وكذلك تلك الحالة من عدم التحفز والتى قد تقودنا إلى واحدة من القضايا المهمة وهى قضية الانتماء والولاء التى تعد على رأس الأولويات فيما يحدث ويجرى الآن، فالأمر لا يتعلق بعجز أو تقاعس فى الأداء الحكومى فقط أو قلة الإمكانيات والموارد، وإن كان ذلك صحيحا إلى حد ما، ولكن الأمر يتعلق بالشخصية المصرية وما طرأ عليها من تغيرات كبيرة جعلها تميل إلى اللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية، فالكل مسئول عما وقع من كوارث وما سيتبعها إلا أنه لم تحدث انتفاضة على المستوى الأخلاقى والقيمى.
gamil gorgy@ gmail.com